شيكاغو
طغت الاحتجاجات المطالبة بوقف الإبادة الجماعية في قطاع غزة وحظر توريد الأسلحة الأميركية لإسرائيل، على أجواء المؤتمر الوطني للحزب الديمقراطي الذي استمر على مدار أربعة أيام في مدينة شيكاغو، وانتهى يوم الخميس الماضي بقبول نائبة الرئيس كامالا هاريس ترشيح الحزب الأزرق لمواجهة المرشح الجمهوري دونالد ترامب في سباق البيت الأبيض 2024.
وكانت تداعيات الحرب الكارثية في الأراضي المحتلة هي الغائب الحاضر في مؤتمر الديمقراطيين الذي شهد يومه الافتتاحي خطاباً «وداعياً» للرئيس جو بايدن يوم الإثنين المنصرم قبل أن يتوالى الخطباء على مدار الأيام التالية مصوبين سهام انتقاداتهم باتجاه ترامب بوصفه خطراً داهماً على الديمقراطية.
وكما كان متوقعاً صوت مندوبو الحزب لترشيح هاريس ونائبها حاكم ولاية مينيسوتا تيم والز للبيت الأبيض، مقابل معارضة محدودة تمثلت بالمندوبين غير الملتزمين، وذلك بعد برنامج خطابي مكثف، شارك فيه الرئيسان السابقان بيل كلينتون وباراك أوباما وزوجتاهما هيلاري وميشيل، بالإضافة إلى كبار المشرعين والحكام الديمقراطيين في أنحاء الولايات المتحدة.
وقبل ساعات من بدء أعمال المؤتمر في مركز «يونايتد»، مساء 19 آب (أغسطس) الجاري، تظاهر لأكثر من خمس ساعات آلاف المحتجين الذين توافدوا من جميع أنحاء أميركا للتنديد بالتواطؤ الأميركي مع الحرب الوحشية التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة منذ تشرين الأول (أكتوبر) المنصرم، والتي أسفرت عن مقتل وتهجير وإصابة مئات آلاف المدنيين الفلسطينيين، معظمهم من الأطفال والنساء.
مظاهرات مؤيدة لفلسطين على مدار أربعة أيام .. واعتصام لمندوبي حملة «غير ملتزم»
ورفع المتظاهرون لافتات كُتب عليها: «أوقفوا الإبادة الجماعية والفصل العنصري»، و«أوقفوا دعم إسرائيل»، مرددين شعارات «فلسطين حرة»، و«الأموال للشعب وليست للحروب» و«بايدن شريك في جرائم الإبادة»، إلى جانب مطالبتهم بوقف إطلاق النار في قطاع غزة، وتعهدهم بعدم التصويت لهاريس في الانتخابات الرئاسية المقررة في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل.
وشارك في احتجاجات اليوم الأول مؤيدون للقضية الفلسطينية ومستقلون وديمقراطيون من مختلف التيارات والاتجاهات، لتوجيه رسالة إلى الحزب الأزرق والمرشحة الرئاسية مفادها أنه قد «حان وقت التوقف عن الكلام وبدء العمل». وقال المتظاهرون إنهم يريدون من هاريس الالتزام بوقف إطلاق النار، وحظر توريد الأسلحة لإسرائيل لضمان أصواتهم، بمن فيهم المقترعون الذين اختاروا التصويت بـ«غير ملتزم» في تمهيديات الرئاسة الأميركية في شباط (فبراير) الماضي.
واقتحم مئات المحتجين على حرب غزة والدعم الأميركي لإسرائيل سياجاً أمنياً في محيط مركز «يونايتد» ليحتشدوا لفترة وجيزة في حديقة بمنطقة وست سايد موجهين هتافاتهم الغاضبة ضد «كامالا القاتلة»، وذلك قبيل كلمة للرئيس بايدن، الذي قال إن المتظاهرين لديهم «وجهة نظر محقة»، موضحاً بأن «الكثير من الأبرياء يقتلون على الجانبين، وأنه حان الوقت لإنهاء الحرب».
وكانت التظاهرة الاحتجاجية قد نظمت بمشاركة أكثر من مئتي مجموعة حقوقية تعنى بعديد القضايا، من حقوق الإنجاب إلى العدالة العرقية، بالإضافة إلى تأييد حقوق الشعب الفلسطيني في الحرية وتقرير المصير. وقال المتحدث باسم التحالف حاتم أبو دية إن المنظمين كانوا يتوقعون حضور عشرات آلاف المحتجين على مدار أيام المؤتمر، لاسيما وأن منطقة شيكاغو تضم أكبر تجمع للجالية الفلسطينية في الولايات المتحدة.
وفي حين اتسمت تظاهرات اليوم الأول بالسلمية وسط انتشار كثيف لعناصر شرطة شيكاغو، نفذ مئات المحتجين مساء الثلاثاء المنصرم تظاهرة أمام القنصلية الإسرائيلية بمدينة شيكاغو، والتي سرعان ما قامت الشرطة بفضّها معتقلةً ما بين 55 و60 متظاهراً، بحسب وكالة «أسوشيتد برس». وذكر قائد شرطة شيكاغو لاري سنيلينغ، أن المعتقلين خارج القنصلية الإسرائيلية، على بعد نحو 3 كيلومترات من «مركز يونايتد»، حيث كان الديمقراطيون يجتمعون، «ظهروا بنية ارتكاب أعمال عنف وتخريب»، مضيفاً في مؤتمر صحفي: «لقد فعلنا كل ما في وسعنا لتهدئة الموقف».
وتدخلت الشرطة لفض الاحتجاج بالقوة بذريعة قيام بعض المتظاهرين بالاشتباك مع عناصر الشرطة الذين أغلقوا الطريق أمام المظاهرة لمنعها من الوصول إلى القنصلية.
وكانت الاحتجاجات أمام القنصلية الإسرائيلية بشيكاغو قد بدأت رداً على متظاهرين مؤيدين لإسرائيل رفعوا شعارات تطالب بترحيل المحتجين المؤيدين للقضية الفلسطينية، ما أسفر عن توافد المئات منهم وفي نيتهم استحضار ما شهدته مدينة شيكاغو خلال المؤتمر الوطني الديمقراطي عام 1968، حيث رفعوا لافتات كُتب عليها: «لنجعل ما نفعله عظيماً مثل 1968»، و«سنوقف ونعطل المؤتمر الوطني الديمقراطي من أجل غزة»، و«سنحضر الحرب إلى هنا»، و«لا.. لمؤتمر الإبادة الجماعية في شيكاغو»، كما أحرقوا العلم الإسرائيلي أمام القنصلية.
واستمرت الحركة الاحتجاجية في الشواراع والساحات المحيطة بـ«مركز يونايتد» الذي تحول إلى ما يشبه الحصن، لمنع المحتجين من دخول المكان وتعكير صفو المؤتمر الذي أريد له أن يبث «الفرحة» في قلوب الأميركيين بدلاً من «الكراهية» التي يبثها معسكر ترامب.
وفي خطابها أمام المؤتمر قالت هاريس إن الوقت قد حان لوقف إطلاق النار في غزة وتحرير الرهائن، مستدركة بالتأكيد على دعمها «في حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وأضافت أن «ما حدث في غزة مفجع» و«يفطر القلب». وأوضحت هاريس بأنها عملت مع الرئيس بايدن خلال الشهور المنصرمة لإنهاء الحرب في قطاع غزة لكي «تكون إسرائيل آمنة ويتم إطلاق سراح الرهائن وتنتهي المعاناة في غزة ويتمكن الشعب الفلسطيني من الحصول على حقه في الكرامة والأمن والحرية».
وبالتزامن مع خطاب هاريس، وصلت مسيرة لنحو 20 ألف متظاهر إلى مقر المؤتمر الوطني الديمقراطي يطالبون بوقف إطلاق النار في غزة. ورفعت مجموعة «يهود من أجل السلام» لافتات كتب عليها «أوقفوا الإبادة الجماعية.. ليس باسمنا كيهود». كما هتفت المجموعة بالعربية: «فلسطين حرة حرة وإسرائيل برة برة».
غير ملتزمين
بالتزامن مع استمرار الاحتجاجات المطالبة بإنهاء الحرب على غزة، نفذ أعضاء من حملة «غير ملتزم» الخميس الماضي اعتصاماً أمام القاعة الرئيسية للمؤتمر الوطني الديمقراطي رافعين لافتات كُتب عليها: «حظر توريد الأسلحة الآن»، و«لا.. لقنبلة أخرى» و«أوقفوا التسليح».
المندوبون، وعددهم ثلاثون مندوباً بينهم اثنان يمثلان المقترعين غير الملتزمين بولاية ميشيغن، رفضوا منح أصواتهم لهاريس بعد رفض القائمين على المؤتمر، السماح لأحد الفلسطينيين الأميركيين بالمشاركة في البرنامج الخطابي لإسماع الأصوات المؤيدة لحقوق الشعب الفلسطيني،
ووفقاً لما أدلى به المندوب عن حملة «غير ملتزم» بولاية ميشيغن عباس علوية فإن نائبة الرئيس كامالا هاريس رفضت الموافقة على السماح بتمثيل الصوت الفلسطيني في المؤتمر.
وخلال الاعتصام، صرخ مندوب من ولاية مينيسوتا قائلاً: «كيف سأطرق الأبواب وأقول صوتوا لهذه (كامالا)، وما هي الديمقراطية التي نتحدث عنها عندما نموّل الإبادة الجماعية». وأضاف جودي رودورين، وهو أحد المشاركين في الاعتصام: «أنا يهودي وأعتصم مع إخوتي المسلمين ولا أقبل بوفاة أي طفل من أجل سلامتي»، مردفاً: «الجميع يريدون أن يشعروا بالرضا وأن يحتفلوا، بينما نقوم بقتل الناس».
وقال علوية: «هنالك أشخاص يستحقون العيش في عالم لا ترسل فيه حكومة الولايات المتحدة أسلحة تستخدم لتدمير حياتهم بالكامل»، مضيفاً: «إذا كنت شخصاً عادياً مثلي فأريدك أن تعلم بأن الحزب الديمقراطي يتخذ قراراً فعالاً بقمع أي نقاش حول الأوضاع الكارثية في قطاع غزة». وأردف علوية وهو يحمل هاتفه المحمول: «كنت أنتظر مكالمة للرد على مطالبنا، لكنهم لم يردوا علينا، ثم جاءني اتصال وكانت الإجابة: لا».
وأبدت موظفة أميركية يهودية مستقيلة من إدارة بايدن، استياءها من سياسات الرئيس الديمقراطي، وقالت خلال المؤتمر الصحفي: «لقد شاهدت الرئيس وهو يجعل مجتمعي واجهة لهذه الآلة الحربية، لقد رأيته يستغل سلامتنا ويسيء معاملة أصدقائي ويستثمر موتهم في السابع من أكتوبر، يستغل موت من أهتم لأمرهم وموت العديد من الأشخاص في مجتمعي لتبرير الإبادة الجماعية ومذابح أشقائنا الفلسطينيين».
وكان المندوبون الـ30 قد أكدوا بأنهم سيلتزمون بالتصويت لهاريس إذا تم السماح لفلسطيني أميركي بإلقاء كلمة في المؤتمر الديمقراطي أسوة بالسماح لوالدي رهينة إسرائيلي لدى حركة «حماس» بمخاطبة المؤتمرين يوم الأربعاء الفائت، وهو ما اعتبرته النائب الأميركية عن ولاية ميشيغن في الكونغرس الأميركي رشيدة طليب «ازدواجاً» في معايير الحزب الديمقراطي. ولكن اللجنة الوطنية للحزب اكتفت بتوفير ندوة منفصلة لمناقشة جماعية للقضية الفلسطينية بالإضافة إلى ندوة أخرى حول معاداة السامية ضمت قيادات يهودية.
ويمثل المندوبون الـ30 أكثر من 700 ألف مقترع صوّتوا بغير ملتزم في عموم الولايات المتحدة خلال تمهيديات الرئاسة الأميركية في فبراير الفائت، وهم يشكلون تحالفاً مع 250 مندوباً إضافياً يطالبون هاريس بوقف إطلاق النار في قطاع غزة، وحظر الأسلحة لإسرائيل.
المندوبون الـ30 الذين حاولوا البقاء بعيداً عن المحتجين خلال أيام المؤتمر الأربعة، دأبوا يومياً على المطالبة بالسماح لهم بالظهور على منصة المؤتمر لبضع دقائق مبدين استعدادهم للعمل مع المنظمين لإعداد الملاحظات واختيار المتحدث المقبول من جميع الأطراف، ولكن من دون جدوى.
وعلى هامش المؤتمر، دعا أطباء عائدون من قطاع غزة المحاصر، الرئيس بايدن وإدارته إلى حظر الأسلحة عن إسرائيل فوراً. مؤكدين خلال مؤتمر صحافي بأن الحرب الإسرائيلية دمّرت كامل القطاع، ومحذّرين من أنّه في حال لم تفرض واشنطن حظراً فورياً للأسلحة عن إسرائيل، فإنّها «سوف تبقى شريكةً لها في الجريمة».
وأشارت الطبيبة الأميركية تامي أبو غنيم إلى أن الهجمات الإسرائيلية المتواصلة «جعلت حياة أيّ مدني في قطاع غزة مستحيلة حرفياً». وفي وصفها الوضع هناك، أضافت أبو غنيم: «لم يكن ممكناً قيامنا بعملنا فيما القنابل تتساقط، والقناصة الإسرائيليون يستهدفون الأطفال والمدنيين، والمروحيات الإسرائيلية تهبط على مجموعات المدنيين»، مشدّدةً على أن «إسرائيل جعلت مهمّتنا مستحيلة بدعم مباشر من الولايات المتحدة الأميركية».
وأكد العديد من الأطباء الذين شاركوا في المؤتمر الصحفي وهم يرتدون الكوفيات الفلسطينية بأنه من غير الممكن نقل كامل «الأبعاد المرعبة» لما شهدوه في قطاع غزة. وقال الطبيب الأميركي فيروز سيدهوا الذي زار قطاع غزة في الربيع الماضي إنه شاهد بأمّ عينه «عنف الإبادة الجماعية». مضيفاً: «رأيت رؤوس أطفال تتهشّم ليس مرّة واحدة ولا مرّتَين، إنّما حرفياً في كل يوم، وبالرصاص الذي دفعنا ثمنه، كما رأيت الدمار الرهيب والممنهج لمدينة خانيونس بأكملها».
وتليت خلال المؤتمر الصحافي رسالة كتبها الطبيب الأميركي اليهودي مارك بيرلماتر من قطاع غزة، ناشد فيها بدوره حظر الأسلحة عن إسرائيل فوراً. وجاء فيها: «لم يسبق لي قط أن رأيت طفلاً صغيراً مصاباً برصاصة في الرأس ثمّ في الصدر. لم أتخيّل قطّ أنّني سوف أرى حالتَين مماثلتَين في أقلّ من أسبوعَين. لم يسبق لي أن رأيت عشرات الأطفال الصغار يصرخون من الألم والرعب… لم أتخيّل قطّ كيف سيكون شكل مستشفى عندما يتحوّل إلى مخيم للنازحين».
وتصاعدت وتيرة الاحتجاجات الخميس الماضي مع قرب انتهاء أعمال المؤتمر واعتماد الديمقراطيين برنامج الحزب الذي ركز على حماية ودعم إسرائيل وتجاهل الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، حيث جابت مسيرة ضخمة شوارع مدينة شيكاغو بمرافقة أمنية مشددة شاركت فيها مروحيات وآليات سدت جميع الشوارع الجانبية على مسار التظاهرة التي انطلقت من منتزه «يونيون بارك» باتجاه مقر المؤتمر الوطني للحزب الديمقراطي.
وتميزت المسيرة بمشاركة واسعة من اليهود الأميركيين المناهضين لدولة الاحتلال، إلى جانب نشطاء في المنظمات الحقوقية والنقابية واليسارية والحركة النسوية وجمعيات المثليين والمتحولين جنسياً، رافعين شعارات تندد بقرارات الحزب الديمقراطي والسياسات الأميركية الداعمة لإسرائيل.
وقال المنظمون إن مسيرتهم تتوخى إبراق رسالة إلى مسؤولي وقيادات الحزب الديمقراطي الذين لم يسمحوا لمندوبي حملة «التصويت بغير ملتزم» التعبير عن أنفسهم داخل أروقة المؤتمر، متعهدين بمواصلة التظاهر والاحتجاج لإسماع أصواتهم للجميع. وطالب المتظاهرون بوقف الحرب في قطاع غزة فوراً وإنهاء المساعدات العسكرية لإسرائيل، مؤكدين بأنهم باتوا أكثر إصراراً من ذي قبل على عدم التصويت لهاريس في نوفمبر المقبل.
Leave a Reply