علي منصور – صدى الوطن
في لحظة سياسية حرجة، تُطلق فيها الدعوات إلى نزع سلاح المقاومة بحجّة حماية الدولة، خرج رجل الأعمال الأميركي – اللبناني الأصل توم برّاك، بتصريح يختصر الأزمة كلّها بجملة واحدة: “سايكس – بيكو انتهت، ولبنان يمكن أن يعود إلى بلاد الشام”.
والقائل ليس رجلاً عادياً، فهو أحد المقربين من الرئيس دونالد ترامب، ومن أهم داعميه في الانتخابات الرئاسية، ويملك حيثية التأثير في القرار الأميركي، خاصة بصفته السفير المعتمد في تركيا والمشرف على الملفين السوري واللبناني.
ليست هذه العبارة زلّة لسان، بل مؤشّر على نظرة أميركية عميقة – وإن لم تكن رسمية – ترى في الكيان اللبناني مجرّد نِتاج اصطناعي، انتهى دوره، وحان وقت دمجه في خرائط جديدة قيد التشكيل.
ما جاء على لسان المبعوث الأميركي لا يمكن تفسيره إلا بوصفه رسالة ضغط سياسية، تهدف إلى تخويف الداخل اللبناني من “مصير ما”، أو التلويح بإعادة لبنان إلى مظلة “سوريا الجديدة”. هذا الكلام لا يعبّر عن رؤية تحليلية، بل عن رغبة كامنة في تقويض الهوية السياسية للبنان، وربطه من جديد بواقع إقليمي مُستحدث.
لكن هذه التصريحات، التي أراد صاحبها أن تكون طعنة في خاصرة المقاومة، تحوّلت في الواقع إلى فضيحة فكرية وسياسية. فبينما سعى لإقناع اللبنانيين بأن لا حاجة للسلاح، قدّم للكثيرين الحجة القوية للتمسك به.
الكيان في مواجهة الذوبان
منذ سنوات، تُطرح فكرة نزع سلاح “حزب الله” كمدخل لبناء الدولة. يُقال إن هذا السلاح يهدد السيادة، يُضعف المؤسسات، ويحول دون قيام دولة حديثة. لكن ما لم يقله هؤلاء، قاله المستثمر اللبناني الأصل دون مواربة: الدولة نفسها لم تعد قائمة في المنطق الجيوسياسي الجديد، وحدودها – أي حدود لبنان – لم تعد معترفًا بها كمقدّس.
وإذا كان لبنان، في نظر بعض دوائر النفوذ الأميركية، مجرّد إقليم يمكن إلحاقه “ببلاد الشام”، وإذا كانت سايكس – بيكو قد سقطت كما جاء على برّاك في وقت سابق ، فهل من المنطقي نزع السلاح الذي يشكّل – حتى اللحظة – ضمانة وجود الكيان بوجه مشاريع الضمّ والتذويب؟
إن من يطالب بنزع السلاح، يُفترض أن يكون أول المؤمنين بلبنان كدولة قائمة بذاتها، ذات حدود واضحة وسيادة مستقلة. أمّا إذا كانت هذه الحدود قد سقطت، فالمطالبة بتفكيك عناصر القوة – وفي طليعتها المقاومة – تُصبح فعلاً انتحارياً بامتياز.
برّاك وحفرة التضليل
ما لم يدركه برّاك ، أن ما قاله لإضعاف موقف الحزب، أعطاه الحجّة ومدّه بقوة المنطق للتمسك أكثر بموقفه. أراد أن يُقنع الناس بخطورة السلاح، فإذا به يذكّرهم بسبب وجوده.
والأخطر، أن هذه التصريحات تُعبّد الطريق أمام قوى خارجية وإقليمية للتدخل في لبنان، من بوابة “الدمج الطبيعي” أو “الهوية المشتركة” أو “الاندماج الجغرافي”، وهي مفاهيم تخفي أطماعًا قديمة – جديدة.
وهكذا، فإنّ الرجل الذي أراد أن يحفر حفرة للمقاومة، وقع فيها دون أن يدري. لأنّ من يُسقط الحدود الجغرافية للدولة، لا يمكنه أن يطلب من الناس أن يُسقطوا سلاحهم. ومن يشيّع الكيان اللبناني، لا يستطيع أن يُقنع أهله بإلقاء سلاحهم على نعشه.
من تفكيك المقاومة… إلى تفكيك الكيان
الخطاب السائد الذي يدعو لنزع السلاح كان قائمًا على فرضية أن الدولة موجودة، وأن المقاومة تقوّضها. لكن ما كشفه تصريح ممثل واشنطن الرسمي هو العكس تمامًا: فالدولة قد انتهت، والكيان مهدد، والمقاومة هي ما تبقّى منه.
ولعلّ المفارقة الأكثر إيلامًا، أن بعض الذين يصفقون اليوم لرجل الأعمال العائد إلى الواجهة، ويتبنّون طروحاته، هم أنفسهم من يرفعون شعارات السيادة والاستقلال، دون أن يدركوا أن السكوت عن مثل هذه التصريحات يعني القبول بذوبان لبنان في كيانات إقليمية أكبر.
وهكذا، يحاول برّاك “العرّاب الجديد” أن يُعيد رسم الجغرافيا السياسية للمنطقة، طامحًا إلى أن يُسجَّل اسمه كلاعب كبير في خرائط الشرق الأوسط الجديد. لكنّ كل ما حققه حتى الآن، هو أنه بدّل المثل القائل مِن “مَن حفر حفرة لأخيه وقع فيها”، إلى “مَن حفر حفرة لعدوّه… وقع وأوقع حلفاءه فيها”.
Leave a Reply