بدت على وجه رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري إمارات الغضب الممزوج بالارهاق وهو الذي ما انفك يصل الليل بالنهار من اجل تتويج جهوده المضنية لـ«اختطاف» الاستحقاق الرئاسي من فم «التنين» الذي يتهدده بالبلع مع كل ساعة ودقيقة تمر قبل الدخول في المهلة الدستورية والجلسة المقررة لالتئام المجلس النيابي يوم الخامس والعشرين من هذا الشهر، عندما اطل ناعياً النائب غير «المقاتل» في تجمع 41 آذار الشهيد انطوان غانم، معتبراً ان جريمة الاغتيال الجديدة استهدفت بدرجة اولى مبادرته الانقاذية التي كانت على موعد تاريخي ذات وقت من نهار الجمعة مع البطريرك الماروني نصرالله بطرس صفير لمحاولة وضع اللمسات الاخيرة على اسم ومواصفات المرشح التوافقي للرئاسة، وبعدما سادت في البلاد عشية هذا اللقاء اجواء من التفاؤل عززتها انباء الاجتماع بين بري ورئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري الذي كان قد اطلق اشارات حول تفضيله الاجماع او شبه الاجماع على اسم الرئيس المقبل.هكذا تحولت في لحظة، مواعيد اللقاءات الى موعد للحداد الوطني على أحدث ضحية اغتيال سياسي، نفذتها ايدٍ ساءها ان يرى اصحابها «كابوس» توافق اللبنانيين على رئيسهم المقبل، في يقظتهم الدائمة من اجل ضمان الوصول الى الفراغ الدستوري وبالتالي الفوضى التي تؤمن استمرار لبنان ساحة لتصفية الحسابات الاقليمية والدولية بدماء نوابه ومواطنيه العابرين الى منازلهم او اعمالهم، في ابشع استخدام «للسياسة» يمكن ان يقع على شعب ظل يعاني من الحروب ويدفع اثمانها من دمه وأمنه واستقراره لاكثر من ثلاثين سنة.. ويخشى ان عملية الاغتيال التي طالت النائب الشهيد انطوان غانم، ليس لشخصه، وهو النائب «الوديع» الذي عاد للتو من دولة الامارات ليشارك في جلسة الانتخابات الرئاسية في 25 ايلول، ولا ربما لانقاص عدد نواب الاكثرية واحداً طالما ان قناعة كانت قد بدأت بالتبلور لدى اكثر من طرف فاعل في صفوف المعارضة والموالاة ان التوافق هو المخرج الآمن الذي لا بد من اللجوء اليه تفادياً للاحتمالات الخطيرة البديلة على مستقبل البلد وكيانه. يخشى ان هذه العملية قد دقت مسماراً غليظاً في نعش الاستحقاق الرئاسي وان تليها تفجيرات ومحاولات اغتيال اخرى في خلال المهلة الدستورية للاستحقاق لاعادة الجهود والاتصالات والمبادرات وعلى رأسها مبادرة الرئيس نبيه بري الى المربع الاول ودفع البلاد الى حالة فراغ مفتوحة على اخطر الاحتمالات في ضوء تهيؤ المنطقة برمتها لمخاضات صعبة، قد لا يكون اقلها نشوب حروب محدودة او واسعة لاعادة صياغة الاوضاع الجيو سياسية وتعديل موازين القوى القائمة بالنار والحديد.ثمة سباق محموم بين جهود الانقاذ التي يقودها رئيس مجلس النواب والبطريرك الماروني وجهود التخريب التي يتولاها بعض الاطراف ممن يرفعون لواء التهديد بالسلاح لمنع انتخاب رئيس بالاكثرية، بينما يبدو ان هدفهم غير المعلن هو الوصول الى الفراغ لاعادة خلط الاوراق بما يضمن عودتهم الى معادلة السلطة التي ساهمت احداث السنوات الثلاث الماضية في ابعادهم عنها.غير ان المغامرة التي يركبها بعض الاطراف قد لا تفضي الى ما يشتهون لان الطرفين الابرز في المعارضة وهما «حزب الله» وحركة امل يحاذران الوصول بالبلاد الى هاوية الفتنة والحروب المذهبية يقابلهما التزام من جانب الطرف الابرز في الموالاة تيار المستقبل بالالتقاء في منتصف الطريق ودائماً تحت مظلة سعودية ايرانية تلقى دعماً اوروبياً وفرنسياً وفاتيكانياً لضبط ادوات اي صراع وإبقائه تحت السيطرة.مع ذلك يبقى التخوف قائماً بقوة من ان يتمكن بعض اللاعبين المحليين والاقليميين ممن لا يؤرقهم رؤية صراع سني شيعي في لبنان، من دفع الامور الى الهاوية اذا كانت التسوية التوافقية الجاري العمل على انجازها انطلاقاً من مبادرة الرئيس بري سوف تبعد بعضهم عن «فردوس الرئاسة» والبعض الآخر عن جنة السلطة التي افتقدوها ويعملون جاهدين على استعادتها بـ«كل الوسائل المتاحة».والمأمول هو ان لا تتطابق بعض الحسابات الاقليمية مع الحسابات الداخلية، فلا يكون الفراغ المحتمل في سدة الرئاسة طريقاً الى الفوضى الشاملة التي يتمناها بعض معتنقي مبدأ «من بعدي الطوفان». ولعل «حزب الله» هو الاكثر ادراكاً لهذه المعادلة المعقدة وقد اختبرها اكثر من مرة في محطات خطيرة خلال العام الفائت ابرزها محطة «الثلاثاء والخميس الاسودين» التي دفع اليها دفعاً من قبل «حلفاء» استغلوا وفاء الحزب لمواقفهم الداعمة له وعدم قدرته في تلك اللحظة السياسية الصعبة التي اعقبت خوضه اشرس حرب ضد اسرائيل، على اهمال مطالبهم بالنزول الى الشوارع لمحاولة فرض حل على الفريق الآخر وهو ما استنفد آخر المحاولات غير السلمية او «الحضارية» التي زعم يومها انها منطلقهم في عملية التغيير.ويدرك «حزب الله»، بلا ريب، ان خصماً من نوع «تيار المستقبل» على الساحة السنية في لبنان يبقى افضل بما لا يقاس من اخصام من النوع الذي اقدم عى ذبح الجنود اللبنانيين في مهاجعهم وان المزيد من التعبئة الاعلامية والشحن الطائفي على منابر التحريض كفيل بأن يفرز اعداء لخط ونهج المقاومة وبيئتها، أين منها ما يعاب على جماعة 14 آذار وتيار المستقبل من «مواقف ونوايا سيئة».وبصراحة اكبر، ما الذي لدى شخص مثل الجنرال ميشال عون ليخسره اذا ابعدته معادلة الرئاسة المقبلة، كونه مرشحاً «تراشقياً» وليس توافقياً كما يحلو له ان يردد، وهو الذي لم يفوت فرصة لابعاد شبح التوافق عن شخصه حتى وصل به الامر الى حدّ الاسفاف الكلامي عندما وصف نواب لبنانيين يفترض ان «يصوتوا له كمرشح توافقي» بـ«الهررة والواوية» الذين انتزع لهم تحالف حلفائه الحاليين مع جماعة 14 آذار مقاعد نيابية يأباها عليهم الآن!.اما مسؤولية «حزب الله» فهي لا تقاس لان مصير طائفة برمتها، هي كبرى الطوائف اللبنانية تتدلى من عنقه، والمسألة اكثر تعقيداً وخطورة مما يظن الجنرال الطامح الى الرئاسة «بأي ثمن».لقد اثبت «حزب الله» في اكثر من محطة انه ظل ضنيناً بصيغة التعايش الاسلامي-الاسلامي والإسلامي-المسيحي ولم يكن يوماً راغباً في القطيعة مع سائر المكونات الطائفية والمذهبية لبلد الثماني عشرة ملة وطائفة، غير انه اليوم واقع في مأزق لم يرغب فيه. فالفراغ الذي دوى في مداه انفجار الرسالة الدموية في جسد النائب انطوان غانم وثلة من المواطنين الابرياء قادر على امتصاص الكثير من اصوات الانفجارات التي ستعلو اصواتها على اصوات المبادرات والنداءات وتطرب لها آذان من ليس لديهم ما يخسرونه، على اي حال، في صفوف بعض «حلفائه».فهل يشيع لبنان مع انطوان غانم جنازة الاستحقاق الرئاسي ويدخل المعزون الى «عالم» الفراغ الدستوري ليتسلوا بالحديث عن البلد «الراحل» كل من «دويلته» على اعتبار ان «من خلف ما ما مات»!.
Leave a Reply