يعيش اللبنانيون المرحلة التي مروا بها قبل حوالى عشرين عاماً، عندما شارفت ولاية الرئيس امين الجميل على النهاية في العام 1988، حيث حضرت الدول الى لبنان والمنطقة، للاشراف على الانتخابات الرئاسية، وانتقال السلطة.في ذلك الزمان، وضع البطريرك الماروني نفسه نصرالله صفير، لائحة بخمسة مرشحين ليتم الاتفاق عليهم بين سوريا واميركا، بعد ان تم رفض مرشح سوريا انذاك الرئيس سليمان فرنجية، وتعطيل الانتخابات من قبل «القوات اللبنانية» التي كانت تمسك الارض عسكرياً وامنياً في المناطق الشرقية.لائحة صفير لم يؤخذ بها في اجتماع الرئيس حافظ الاسد والمبعوث الاميركي ريتشارد مورفي، ودخل عليها اسم النائب مخايل الضاهر، وعندما اعلن عن الاتفاق الاميركي-السوري حوله، جوبه برفض ماروني، على فرض اسم لرئاسة لجمهورية، وتعطلت جلسة انتخاب جديدة، وعمت الفوضى التي حذر منها مورفي بقوله: «مخايل الضاهر او الفوضى»، ولما اقترب الموعد الدستوري لانتهاء رئاسة الجميل ليل 23-24 تشرين الثاني 1988، وقبل ساعات من منتصف تلك الليلة، بدأ البحث في منع حصول الفراغ الدستوري، بعد ان تعذر التوصل الى توافق مسيحي حول رئيس الجمهورية، وكذلك رفض التدخل الاميركي السوري، فلجأ الجميل الى تشكيل حكومة عسكرية برئاسة قائد الجيش العماد ميشال عون، بعد ان فشل في تأليف حكومة برئاسة ماروني وكان مطروحاً النائب بيار حلو، وانسحب الضباط المسلمون من الحكومة العسكرية، التي واجهتها حكومة كانت قائمة برئاسة سليم الحص، ودخل لبنان مرحلة الحكومتين، اللتين رافقتهما فوضى دستورية وادارية وحرب داخلية.هذا المشهد هو ما يقلق اللبنانيين، وقد حذر الرئيس الجميل من العودة اليه والوقوع فيه، واكد انه يعمل لعدم حصوله من جديد، والوصول الى توافق، وايد انتخاب رئيس بالنصاب القانوني لثلثي اعضاء المجلس النيابي في الجلسة الاولى.وخطر الفراغ والانقسام، بات تشعر به مختلف الاطراف اللبنانية في الموالاة والمعارضة، بالرغم من ارتفاع حدة الخطاب السياسي. وكانوا كلما اقترب الموعد الدستوري من انتهاء ولاية رئيس الجمهورية العماد اميل لحود، يقتربون من الخطر اكثر، وهذا ما دفعهم الى العمل لانقاذ الاستحقاق الرئاسي من الفراغ، ولجأوا الى البطريرك نصرالله صفير لوضع لائحة بمرشحين، وقد ناشده كل من الرئيس نبيه بري ورئيس كتلة المستقبل النيابية سعد الحريري، ان يسمي مرشحين للتوافق على واحد منهم، فيكون بذلك قد سهّل عملية الانتخابات، وهما سيعملان وفق هذه اللائحة.والبطريرك الذي مرت عليه مثل هذه التجربة، قرر ان لا يلدغ من جحر مرتين، لكن تحت الحاح داخلي، ورغبة خارجية، وتحديداً فرنسية وأوروبية وفاتيكانية، رفع لائحة باسماء سبعة مرشحين من الاسماء المتداولة، واختارهم من ضمن ثلاثة فئات: الفئة الاولى وتضم مرشحي المعارضة والموالاة وهم: العماد ميشال عون (المعارضة) نسيب لحود وبطرس حرب (الموالاة) وفئة المرشحين التوافقيين وهم: ميشال اده، ميشال الخوري وروبير غانم. وادخل اسم حاكم مصرف لبنان رياض سلامة من ضمن فئة الموظفين او التكنوقراط اذا كان لا يحتاج الى تعديل للدستور، وقد اشار الى ذلك بخط يده.هذه اللائحة التي سلمها سيد بكركي الى وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير قبل موعد جلسة 21 تشرين الثاني، كانت من ضمن الية فرنسية، ان يقترح البطريرك الاسماء، وتجري جوجلتهم بين بري والحريري للاتفاق على مرشح واحد منهم، طالما ان صفير لم يشاء ان يدخل في تحديد اسم واحد، كي لا يدخل في سجال مع احد، ويختلف مع مرشحين اخرين، وهم كثر، وقد حصل ذلك، اذ عاتب البعض رئيس كنيستهم على عدم اختياره، وسأل البعض الاخر عن عدم ذكر اسمه في لائحة صفير كما ان بعض المرشحين كان يظن ان صفير سيقدمه على مرشحين اخرين، في حين رفض عون ان يذكر اسمه في اللائحة.قام البطريرك بواجبه، واعتبر انه سهّل مهمة الذين يصنعون الرئيس، دون ان يتوقف عند اسماء اللائحة فقط، فهو لم يمانع ان تنضم اليها اسماء اخرى، والمهم ان لا يحصل فراغ في رئاسة الجمهورية وان لا يدخل لبنان في المجهول، كما اعلن صفير الذي، كان يتطلع الى السماء من اجل حصول معجزة ليتفق الموارنة على مرشح، اذ جوبهت لائحته بـ«فيتوات» من مختلف الاطراف، بدأت بالقوى المسيحية، لتنتقل الى الموالاة والمعارضة لتسقط الضمانات التي اعطيت له.فبعد اسقاط اسماء مرشحين محسوبين على قوى 14 شباط والمعارضة اي لحود وحرب وعون، فان النقاش دار بين بري والحريري اللذين يتفاوضان باسم المعارضة والموالاة على الاسماء الاربعة اده والخوري وغانم وسلامه، فطرح الحريري اسمي الخوري وغانم، فاسقطهما بري وتحديداً غانم، واعتبر الخوري انه خارج التداول، فيما جرى صرف النظر عن سلامة، لانه بحاجة الى تعديل للدستور، في حين ان دراسات قانونية اكدت ان حاكم مصرف لبنان ليس موظفاً وليس بحاجة الى تعديل للدستور، وامام وضع رئيس مجلس النواب «فيتو» على اسمي غانم والخوري، لم يتقبل رئيس «تيار المستقبل» اسم اده واعتبره انه مرشح موحى به من سوريا ويلقى تأييد «حزب الله».وفي الوقت الذي كان بري والحريري يناقشان لائحة صفير، كان العماد عون يصر على انه مرشح وفاقي ويقدم حلولاً للازمات التي يعيشها لبنان،واعلن انه لن ينسحب من معركة انتخابات الرئاسة، وقد ايده «حزب الله» واطراف المعارضة واكدوا على انه مرشحهم، بالرغم من محاولات قام بها الفريق الحاكم لزرع التناقض داخل صفوف المعارضة، والاشارة الى ان «حزب الله» لا يدعم وصول عون، وقد ردت قيادة الحزب على ذلك بالاعلان بشكل واضح ان مرشحها هو رئيس «التيار الوطني الحر» لانه يمثل اكثرية المسيحيين (70 بالمئة)، ويترأس كتلة نيابية من 23 نائباً.وهذا الموقف المعلن من «حزب الله» في تأييد عون، ترك الانظار تتجه نحوه من اجل تذليل عقدة ترشيحه للوصول الى مرشح توافقي، حيث برز اسم اده، الذي حظي ايضاً بتأييد فرنسي لانه ينتمي الى الفرنكوفونية، ويصدر صحيفة فرنسية في لبنان «لوريون لوجور»، وله صداقات اميركية، ويلقى قبولاً عربياً، ويقف موقفاً مناهضاَ ضد الصهيونية، ويؤيد المقاومة، ولا تعتبره سوريا معادياً لها، وهو كان رئيساً للرابطة المارونية ويترأس مجلس الانتشار الماروني، وهذا ما يعطيه رصيداً لدى البطريركية المارونية، ومرحب به من الفاتيكان، التي لم تمانع من طرح اسمه عندما زار صفير روما وتداول مع البابا في رئاسة الجمهورية.فالتوافق على اسم المرشح، شكل نقطة اللقاءات والاتصالات اللبنانية والعربية والاقليمية والدولية، بحيث انشغلت دول عديدة في الاستحقاق الرئاسي، الذي لم يشهد مثل هذا الاهتمام في سنوات سابقة، اذ يخشى المجتمع الدولي، من عدم حصول الانتخابات، ويقع لبنان في اتون حرب اهلية، ستتطال شرارتها المنطقة والمحيط القريب والبعيد، اذ ان الفوضى التي تهدد لبنان دفعت حضور وزراء الاتحاد الاوروبي الى بيروت، كما ان فرنسا وضعت كل ثقلها لانجاز هذا الاستحقاق، وتدخل الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي شخصياً لانقاذ انتخابات رئاسة الجمهورية، فإتصل بالرئيس السوري بشار الاسد وبحث معه بالوضع اللبناني، معترفاً بدور سوري في لبنان، متمنياً عليه تسهيل هذه الانتخابات، وان فرنسا ودول اوروبية سترفع العلاقات مع سوريا الى مرتبة متقدمة، فكان الرد السوري، ان دمشق ترغب برئيس للبنان لا يكون معادياً لها، وهي لا تتدخل بالاسماء وتضع مواصفات ولها الحق في ذلك، وقد تم تفهم المخاوف السورية من قبل الدول الاوروبية وبعض الدول العربية، وضرورة الاخذ بها، لا سيما وان سوريا اشتكت من ان السلطة الحاكمة في لبنان معادية لها، وهي لا تنفك تحرض عليها وعلى القيادة فيها وتعمل لاسقاطها، وتتعاون مع خصوم ومعارضين لها، وهذا تدخل في شؤونها، لذلك هي لن تسهل وصول رئيس يحكم لبنان ضدها.فسوريا ابلغت فرنسا عبر موفديها والرئيس ساركوزي، انها لا تريد ثمناً لذلك، بل تؤيد رئيسا توافقيا، وهي تثق بحلفائها في لبنان للتوصل مع الاطراف الاخرى الى مرشح رئاسي ليس مناهضاً لسوريا ويدعم المقاومة.والرد السوري اسقط الادعاءات التي اعلنها فريق 14 شباط، من ان سوريا تريد حصة في رئاسة الجمهورية، وتسعى الى مرشح يكون لها، وفي هذا الاطار فان العماد عون لا يصنف بأنه مرشح سوريا، لكنه ليس معادياً لها، وهو اعلن ذلك منذ خروج القوات السورية من لبنان، وطالب بأفضل العلاقات، وتحت هذا العنوان يطرح نفسه مرشح حل.والاعتراف الفرنسي بدور سوريا في الاستحقاق الرئاسي،اعادها لاعباً اساسياً في لبنان، كما في المنطقة، حيث فشلت الادارة الاميركية في عزلها او تحجيم دورها الاقليمي، وهذا ما اكدت عليه زيارة العاهل الاردني الملك عبدالله الثاني الى سوريا بعد انقطاع دام اكثر من ثلاث سنوات، حيث اتفق مع الرئيس السوري بشار الاسد على اهمية التوافق اللبناني حول الانتخابات الرئاسية.وهذا التوجه الاوروبي والعربي نحو دمشق، لم تكن واشنطن غائبة عنه، التي تتحاور معها بالواسطة، وقد عادت اليها، للوصول معها الى توافق حول الاستحقاق الرئاسي، وقد تحصل مقايضة معها في هذا المجال، كما في مرات سابقة، اذ ان الناخب الرئيسي في الانتخابات الرئاسية كان دائماً خارجياً، ويحصل بتوافق عربي ودولي، وهذا ما حصل في كل الدورات الرئاسية.وان التعقيدات التي رافقت الاستحقاق الرئاسي، هي بسبب المصالح الخارجية، وان لبنان منذ تكوينه، هو نتاج صفقات اقليمية ودولية، وان رئاسة الجمهورية فيه لم تكن صناعة لبنانية، وهي في هذا الاستحقاق لن تصنع في لبنان، بالرغم من محاولات الرئيس بري «لبننته»، وحتى «مورنته» ووضعه في يد صفير والعمل وفق لائحته، لكن هذه المحاولات لم تنجح ، بالرغم من انه تلقى دعماً عربياً ودولياً واقليمياً لمبادرته، لان الخلافات العربية، لاسيما بين سوريا والسعودية، والصراعات الاقليمية والمحاور الدولية، لم تساعد في اخراج الاستحقاق الرئاسي من عنق الزجاجة، والطريق المسدود، وان تأجيل الرئيس بري الجلسة حتى اليوم الاخير من الموعد الدستوري، قد اوصل رئاسة الجمهورية الى حافة الهاوية، والى السباق بين التوافق والفراغ، بعد ان ابتعدت فكرة انتخاب رئيس بالنصف زائداً واحداً، حيث لم تلق اي تأييد داخلي وخارجي، وتم التراجع عنها من قبل الفريق الحاكم، وقد برز ذلك في موقف النائب وليد جنبلاط في تأييده لانتخاب رئيس توافقي وبنصاب اكثرية الثلثين في الدورة الاولى، وترك موقفه المفاجئ هذا صدمة لدى حلفائه في 14 شباط، لا سيما من قائد «القوات اللبنانية» سمير جعجع الذي سأل جنبلاط عن تبديل موقفه، فرد عليه بأنه لا يرغب بتجديد الحرب الاهلية والتي ستبدأ من داخل الجبل الدرزي، بين انصاره واطراف المعارضة الدرزية، وايده الحريري الذي لا يرغب ايضاً بإنزلاق لبنان نحو معارك داخلية وهذا التخوف لدى مختلف الاطراف اللبنانية، ومعها قوى خارجية متفقة على رفض وقوع لبنان في المجهول، هو ما رفع منسوب التفاؤل الحذر بحصول الانتخابات الرئاسية في موعدها، بحيث تبقى حظوظ وصول العماد عون الى رئاسة الجمهورية مرتفعة، كما ان الاتفاق على مرشح يبقى متقدماً، وان ميشال اده قد يكون فلتة الشوط.اما خيارات عدم التوافق وحصول الانتخابات، فقد تكون بقاء حكومة السنيورة المدعومة اميركياً، وهذا السيناريو ترغب به واشنطن، والذي قد يفجر الصراع اللبناني، ويفتح الباب امام حروب داخلية، يعمل الجيش اللبناني على منع وقوعها.
Leave a Reply