«من جعبة الذكريات» حلقات أسبوعية بقلم الصحافي الحاج علي عبود
غادرت مدينة باماكو عاصمة جمهورية مالي القائمة وسط القارة الأفريقية، بعد أن وصلتها من إحدى الدول المجاورة لها، وكنت قد أقمت في مالي أكثر من اسبوعين، تجولت خلالها في كافة أرجاء هذه الدولة الأفريقية الصغيرة بحجمها وتعداد شعبها، والغنية بمحاصيلها الزراعية والسمكية ومعظم انوع الفاكهة كالمانجو والموز وفستق العبيد والبحيرات وبعض الأنهر الصغيرة التي تربط أجزاء البلاد بعضها بالبعض الآخر.غير أن الذي أسعدني كثيرا هو زيارة السلطنة الإسلامية التي لا تزال تحمل إسماً يبدو غريباً بعض الشيء إلا وهو تمبكتو: هذه السلطنة الإسلامية تتمتع بتاريخ حافل ومجيد إذ عاش شعبها أكثر من حرب قضت على الأخضر واليابس. ووقعت في قبضة أكثر من إحتلال أجنبي وتناوبت عليها وحولها الصراعات القبلية الدامية، حتى استقرت أخيرا كما هي اليوم جزءاً هاماً من تاريخ مالي وما يجاورها من دول أفريقية قائمة في الوسط الأفريقي الذي بدأت تنمو في ربوع دوله حضارات متعددة وثقافات عديدة شملت معظم مناحي الحياة الحديثة في البلاد.وكي لا نطيل الكلام عن هذه السلطنة الإسلامية التي تداعت أركان عظمتها بفعل الغزو الدخيل لأراضيها وإستعمارها بشكل لئيم وخبيث، نقول سوف نفرد لها حلقة خاصة بها، إذ أنها تستحق هذا ليس منا نحن وحسب، وإنما من أولئك الذين يتولون كتابة تاريخ الأمم والشعوب ويعالجون قضاياهم التي تحتاج إلى المزيد من الدقة والحكمة والإنصاف.
جمهورية المعادن والمانجوبعد أسبوعين تركت مالي متوجهاً إلى دولة شاطئ العاج، تركتها ليلاً، وفي قطارها السريع بقدر الإمكان ومعلوم أن السفر والترحال عبر قطار وفي وسط أفريقيا بالذات، مسألة ليست بالأمر السهل أبداً بل إنها رحلة كثيرا ما تكون شاقة ومتعبة خاصة إذا كان الجو حاراً والسخونة شديدة، ولا متنفس للمرء إلا الغرف المبردة في القطار السريع هذا إن وجدت. وحينما ركبت القطار من باماكو إلى أبيدجان ليلا وجلست في ركن من أركان الغرفة الخاصة والمبردة، بدأت أتذكر رحلاتي في القطار السريع في بعض دول أوروبا وآسيا ومدنها وعواصمها. لقد أشغلت نفسي باستذكار بعض الرحلات البرية التي استعملت فيها القطار مثل يوم وصلت فيه إلى ميناء وادي حلفا شرق السودان، قاطعاً نهر النيل بدءاً من السد العالي عبر باخرة نيلية حتى منطقة وادي حلفا حيث ركبت القطار ليوم ونصف من وادي حلفا إلى الخرطوم. ومثل آخر أقدمه، يوم كنت في كراتشي وركبت يومها القطار السريع وتوجهت بعدها إلى مدينة حيدر أباد التي زرتها وزرت معالمها السياحية المدهشة، كما التقيت بنماذج عديدة من أبناء الشعب الباكستاني المسلم الشقيق. وغير هذه القطارات كانت لي وسيلة أدخلت البهجة إلى نفسي لأنني رأيت من جماليات الكون ما لم يره أي إنسان آخر.
الوصول إلى منتصف الطريق بين باماكو وأبيدجانسار بنا القطار سيرا حثيثاً دون أي توقف ثم توقف بنا بعد سير طويل علمنا بعدها أن هذه النقطة تقوم في منتصف الطريق تماما بين مالي وأبيدجان وإن هي الا فترة زمنية صغيرة حتى دُق الباب – باب غرفتي – وعرفت أنه عليّ أن أحضر جواز السفر كي يتم عرضه على «المستوظف» الذي سيؤنسنا بزيارته، ويطلع على جوازاتنا ويتأكد من وجود التأشيرة على إحدى صفحاته. أخذ الضابط الجواز وبدأ يبحث عن التاشيرة وعندما وصل إلى الصفحة التي تحتضن الورقة النقدية رفع رأسه وعينيه عن الجواز وخاطبني بلغته الفرنسية قائلاً لي: سيدي، أنت لا تحمل تأشيرة دخول إلى شاطئ العاج. قلت له: معذرة حضرة الضابط، كنت أعتقد أن مالي وشاطئ العاج دولة واحدة وأرجو أن تدقق ثانية ومن جديد لعل وهنا التزمت الصمت فكرر البحث ثانية عن التأشيرة وحينما وصل إلى حيث وضعت الورقة النقدية توقف لحظات وقال لي: تفضل هذا جوازك وسحب الورقة النقدية من بين صفحاته ووضعها في جيبه وقال: اقفل الباب ولا تفتحه أمام أي طارق وودعني قائلاً: بون نوي، ليلة طيبة، ثم خرج. أقفلت الباب بعدها ورحت في سحابة نوم لم أستيقط بعدها إلا وأنا في محطة سكك الحديد في العاصمة أبيدجان.لقد صحوت من النوم وأنا أشعر بحيوية ونشاط تامين، ومن المحطة وعبر سيارة تاكسي، كنت قد توجهت فوراً إلى أحد فنادق منطقة (تريشفيل) حيث تكثر فيها الفنادق العربية والمطاعم والمقاهي والشلل العاطلة عن العمل وليس لديها أي عمل سوى إغتياب الناس ونهش لحومهم بأنيابهم الصفراء.
جولات مكوكية فـي العاصمة أبيدجان
كان عليّ كزائر إلى شاطئ العاج المترامية الأطراف والتي تحتضن الآلاف من اللبنانيين الذين اتخذو منها مقراً دائماً ومستقراً أقول كان عليّ أن أتغلب على مشاعر الوحشة والوحدة، وأنا للمرة الأولى أصل إلى هذه الدولة العريقة التي كان اللبنانيين قد اتخذوها موئلاً ومقراً، لذا رأيتني عندما نزلت من الفندق أستقل سيارة تاكسي طالباً إلى السائق أن يطلعني على أهم ما تحتويه هذه العاصمة الجميلة بجولة في سيارته لأتعرف على شوارعها والأسماء وعلى الفنادق، والمطاعم والمحال التجارية.بدأ السائق وهو من أصل عربي، قد يكون من المغرب، يطوف بي الشوارع والأسواق التجارية، تارة فوق الجسور وتارة يتحول إلى بعض (الهاي وايز) بعبوره تحويلات تربط المدينة بمختلف المناطق والنواحي البعيدة والقريبة على حد سواء.زيارة للسفارة اللبنانيةوفي شارع تجاري فخم، توجهت لزيارة السفير اللبناني فيها الأستاذ محمد ضاهر الذي رحب بي ترحيباً حاراً وقدم لي من الدعم المعنوي ما ساعدني على تحقيق نجاحات جيدة وأنا أجول من جهة إلى جهة أخرى في العاصمة الجميلة أبيدجان وفي دردشة مع سفير لبنان وذلك في مكتبه في السفارة في شاطئ العاج يومذاك محمد ضاهر أشاد بالجهود اللبنانية وبالسواعد القوية والإرادات التي استطاعت أن تحيل الغابات في أفريقيا إلى واحات خضراء وإلى مزارع أكثر اخضراراً، وإلى بناء المدارس والمشفيات (بدون سين) وهو أصغر من مستشفى وأن تتحول معظم النواحي والغابات التي تم فيها الإنتشار اللبناني الكثيف تتحول إلى قرى جميلة وإلى ساحات وملاعب، وإلى محلات تجارية كبيرة وأن تجعل اللبناني يشعر وهو يجول في شوارع أبيدجان أنه لا يزال في جزء من بيروت أو جوء من صيدا، وأن كل ما يراه أمامه الآن من صنع لبنان الحبيب ومن صنع أبناء لبناننا الأخضر في ديار الإغتراب.لقد زودني السفير محمد ضاهر سفير لبنان في شاطئ العاج يومذاك بلائحة تضمنت أسماء العديد من الشخصيات التجارية البارزة، وأسماء رجال الأعمال الذين نجحوا في تحقيق معظم أحلامهم التي كانوا بها يحلمون، كما زودني بأسماء أصحاب الفضيلة العلماء، الذين أقاموا الحسينيات وأنشأوا المدارس، وبنوا المساجد ودور العبادة، كما زودني بأسماء بعض «رجال الدين» الذي سخروا الدين مع الأسف الشديد لمآربهم الخاصة ولمنافعهم المادية وللكسب المادي بمختلف الوسائل والأساليب، لدرجة أن أبناء الجاليات اللبنانية في العاصمة والقرى، بدأوا يتذمرون ويتأففون مما يتم من أعمال كل ذلك كان يتم على حساب الدين فقط.ولم ينس السفير السابق محمد ضاهر أن يزودني بأسماء أصحاب المصانع الناجحة وهم من الكثرة لدرجة أنني لا أستطيع أن أذكر أسمائهم، وأن أتعرف بعدها على مدراء شركات الطيران والميدل أيست في مقدمتها وإهتمام مديرها بكل مغترب قادم أو مسافر وبكل تقدير وإحترام. وليس من المعقول أبدا أن ننسى النوادي اللبنانية وإهتماماتها بكل ما يتعلق بالوطن الحبيب لبنان وإثبات وجود الجالية اللبنانية في كل مناسبة تتعلق بالوطن العزيز لبنان، وتأكيد التلاحم الإنساني القوي والمتين، بالوطن وأرضه وسماءه وبشعبه وبأهدافه الوطنية والقومية والتلاحم الكلي مع أحداث الوطن العربي ولبنان بوجه الخصوص، والتعبير الدائم الداوي والإستنكار القوي والشديد اللهجة وعلى كل المستويات المحلية والدولية والتظاهر المنظم ضد إعتداءات إسرائيل المتكررة والإختراقات الجوية العدوانية الدائمة لأجواء لبنان دون أن يرف جفن لعيون الأمم المتحدة ولا لعيون أمينها العام السابق والحالي على حد سواء.وحينما قامت إسرائيل باعتدائها الغاشم على لبنان، وعلى قانا وشعبها المسالم بوجه الخصوص وسقط نتيجة لهذا الإعتداء على شعب قانا وأطفالها ونسائها وشيوخها العديد منهم قتلى وجرحى بقنابل إسرائيل وطيرانها الذي لم يرحم هؤلاء الشهداء الأبرار، حينذاك كنت في شاطئ العاج أعلن الحداد والإضراب العام لمدة أسبوع إستنكارا لهذه الإعتداءات التي قامت بها إسرائيل ضد أبناء الشعب اللبناني وهم يحتمون في مقرات لقوات الأمم المتحدة التي لم تحترم إسرائيل هذه القوات ولا احترمت دولها ولا أقامت أية أهمية أو وزن لما يعنيه وجود هذه القوات، فوق أرض لبنانية تنفيذا لمقررات هيئة الأمم المتحدة التي وقفت هي وقادتها الموقف المتخاذل الذي أغمض عينيه ووضع رأسه في الوحل صامتاً ودون أن يحرك ساكنا.وفي حلقة قادمة سنتحدث عن عميد المغتربين في القارة الأفريقية وعن لقائي به أكثر من مرة، عنيت به الحاج نجيب زهر (أبو ياسين) وكذلك مع عدد كبير من كبار المغتربين في ساحل العاج كالحاج حسن حمقة وغيرهما من النماذج المشرفة للإغتراب اللبناني العزيز.من الذي أمر باغتيال المغترب الناجح قاسم ضاهر في أبيدجان وفي وضح النهار؟
إضراب أبناء لبنان
فـي شاطئ العاج شل الحركة التجاريةوأخلت الشوارع من الناسكان أمرا ملفتا للنظر وبشكل واضح وصريح أن أبناء الجالية اللبنانية في دولة شاطئ العاج وفي العاصمة أبيدجان بالذات، حينما دعوا إلى إضراب عام شامل وإلى إقفال محالهم التجارية إستنكاراً لإعتداء إسرائيل الغاشم على شعب لبنان في منطقة الجنوب، وفي مدينة قانا بالذات، وبناء على تلك الدعوة وتنفيذا لها أعلن اللبنانيون الإضراب العام في العاصمة أبيدجان وأقفلت جميع المحال التجارية فيها الأمر الذي بدت فيه العاصمة العاجية كمدينة مهجورة تماماً إذ سجل الإضراب نجاحاً غير مسبوقاً فبدت العاصمة على أثرها مدينة مقفلة وكيف لا يكون الأمر كذلك وفي العاصمة العاجية ما لا يقل عن ثمانية آلاف مغترب لبناني جنوبي يمسكون بمفاصل عديدة من مفاصل الحياة التجارية والإقتصادية في البلاد.هذا الإضراب جاء إستنكاراً لإعتداءات إسرائيل على الجنوب وأهله وقراه، وتخلله عدة ندوات خطابية وعدة لقاءات بين قادة المغتربين وفئات غفيرة من أبناء الشعب اللبناني المستنكر حتى اليوم كل اعتداء إسرائيلي غاشم على لبنان وشعبه وعلى الجنوب وأبناءه الأبرار. لذلك، رأينا يومئذ أية وحدة تضم جميع أبناء الشعب اللبناني في ديار الإغتراب وأي تلاحم إنساني مع الوطن الأم ومصائبه أبدته جاليتنا اللبنانية الكريمة في ربوع جمهورية شاطئ العاج فضلا عن القيام بحملات الدعم المادي لأهل الجنوب وتخفيفاً لآلامهم جميعا
Leave a Reply