لم يكن اسم عبد الله بن حسين الأحمر اسماً عادياً بالنسبة إلينا، حين كنا طلاباً نتابع أخبار الثورة الجمهورية في اليمن، فلقد كنا نواكب دوره الهام، ودور قبائل حاشد التي يتزعمها، في حماية الثورة اليمنية قبل أن نعرف أن عائلته قد دفعت ثمناً غالياً على يد الحكم الحميدي الذي أعدم والده حسين وشقيقه حميد اثر حركة انقلابية لم يكتب لها النجاح… كنا نظن يوماً أن الشيخ عبد الله هو شيخ بالمعنى القبلي، وشيخ لجهة السن أيضاً، لنفاجأ بعد ذلك بأن هذا الرجل الذي كان في طليعة المتصدرين للدفاع عن الجمهورية لم يكن عمره مع ثورة 26 سبتمبر 1962 أكثر من ثلاثين عاماً. وكانت مواقف الشيخ عبد الله آنذاك، كما مواقف غيره من زعماء القبائل الذي دافعوا عن الجمهورية، تثير فينا إشكالية «القبلية» في مجتمعنا العربي، وكيف يمكن لأبي الصادق أن يدافع عن الجمهورية، وهي رمزا للتقدم والحداثة آنذاك، وهو شيخ مشايخ قبائل حاشد حيث القبلية مرتبطة ـ بالمفهوم الثوري آنذاك ـ بالتحجر والتخلف والجمود. ولا أنكر أن ظواهر كالشيخ الأحمر، ووالده الشهيد وشقيقه قبله، جعلتني أشك في تلك التسطيحات النمطية التي فرضت نفسها على الفكر السياسي العربي، كما على علم الاجتماع، والتي ادّعت أنها تملك أدوات تحليل تنير لها درب فهم مجتمعاتنا، فإذا بها تأخذنا بعيداً عن فهم هذه المجتمعات، لنفاجأ المرة تلو الأخرى بظواهر نعجز عن تفسيرها فنعمل على ليّ عنقها لكي تستوعبها أدوات تحليلنا الجامد… ومرت الأيام حتى جاء المؤتمر التأسيسي لمؤسسة القدس يجمعنا في بيروت في أوائل عام ،2002 حيث انتخب الأحمر نائباً لرئيس مجلس الأمناء الشيخ يوسف القرضاوي (أمدّ الله في عمره)، فتعرفت عن كثب على رجل حاول أن يجمع ـ دون اصطناع ـ بين الحداثة والأصالة، بين العروبة والإسلام، بين الانغماس في تفاصيل الحياة اليمنية وبين الالتزام الصادق والأصيل بكل قضايا الأمة والمنطقة من فلسطين الى العراق الى لبنان الى أفغانستان، وكانت القدس هاجسه ومحركاً رئيسياً لاهتماماته العامة. فقد كان يعبّر عن آرائه ومواقفه بكلمات مختصرة تشبه الإيماءات، وبنظرات وآهات فيها الكثير من الإيحاءات. فقد علمته الأيام أن يعبّر عن كل آرائه بما لا يحرج موقعه ودولته، وبما لا يثير الخلافات والمناكفات، إذ قلّما عرفت يمنياً إلا ويحمل الاحترام للشيخ الأحمر، ويفسر هذا الاحترام بجانب من جوانب تلك الشخصية الجامعة بين ما كان يبدو أنه تناقضات، والحاملة في معينها حكمة وصلابة، براءة ودهاء، عفوية وحسابات دقيقة، موالاة ومعارضة، زعامة قبلية ورئاسة حزبية في آن… وأكثر ما لفتني في هذا الرجل، الذي كان منزله مجلساً دائماً لكل ألوان الطيف اليمني، وكان قلبه مفتوحاً لكل صاحب حاجة من أبناء وطنه وأمته، هو متابعته الدقيقة لأحوال لبنان وأوضاعه، فتراه يسألك عن هذا الزعيم اللبناني أو ذاك معلناً رأيه بصراحة بالغة، كما تجده يستفسر عن كل استحقاق لبناني ليدلي بدلوه في أسلوب معالجته. كانت وحدة لبنان وسلمه الأهلي بعض شواغله الرئيسية كيف لا وهو الذي عاش مرارة الحروب الأهلية في اليمن وندب نفسه لتحصين بلاده ضدها، وكانت المقاومة اللبنانية المجاهدة مصدر اعتزاز دائم له لأنها، كما كان دائماً يقول، تشكل مع المقاومة الفلسطينية والمقاومة العراقية ثالوث الرد الناجع على الاحتلال والهيمنة ومصدر العزة والمنعة والكرامة. في كل مرة كنت أتصل به خلال فترة معالجته في المستشفى في الرياض، كان صوته القوي يخفي حالته الصحية المتراجعة، وكان يسألني بلهفة عن لبنان ومصيره، ولا أنسى كلماته لي بعد عدوان تموز 2006: «حافظوا على وحدة لبنان فهي قوة للعرب، وحافظوا على مقاومة لبنان فهي مفخرة للأمة جمعاء». لقد كان همّ شيخ مشايخ «حاشد» اليمنية، طيلة حياته، أن «يحشد» طاقات بلده وأمته في مواجهة كل التحديات، فالتقى على تقدير دوره وجهوده وجهاده قوى وشخصيات يمنية وعربية وإسلامية تنتمي إلى بيئات فكرية متباينة، واتجاهات سياسية متنوعة، بما كان يؤكد أنه رجل لقاء، ومركز اجتماع، وقطب الرحى في أي تواصل وتفاعل وحوار بين أبناء اليمن والأمة. رحمك الله يا أبا الصادق، فقد عشت حياتك صادقاً وصدوقاً.
Leave a Reply