أذا تجرد المسلم من التعصب الى ما ينتمي اليه من منهج يوصله الى الحقيقة في القضايا التي هي محل خلاف، ويعطي المسلم لعقله فرصة البحث والكشف بعيداً عن الضغوط التاريخية والتعبئة المذهبية، فإنه سوف يحكم على معظم القضايا التي نقلها التاريخ بكل وضوح وشفافيه وترك الحكم للعقلاء، ومن أبرز الحوادث ما حصل في كربلاء لأهل بيت الرسول صلى الله عليه وآله وهو أمر أعظم من أن يحجّم في دائرة مذهب من المذاهب الاسلامية كما هو الحال الذي يعيشه المسلمون في إحياء عاشوراء، ونحن بهذه المناسبة الأليمة نسلط الضوء على الأسباب التي تدعونا لمطالبة المسلمين بدراسة متأنية لهذه القضية التي شغلت المسلمين وميزت بعضهم عن بعض، أن حركة الإمام الحسين عليه السلام التي أنتهت بمأساة كربلاء تجسد مرحلة مهمة من مراحل التاريخ الإسلامي، تجلت في الصراع بين منهجين: الأول يتمثل في السلطة الأموية الحاكمة التي حاولت إعادة إحياء المفاهيم القبلية، وإنتاج مفاهيم سلطوية جديدة تقوم على الإخضاع والإكراه (التوريث)، في حين أن المنهج الثاني كان يتمثل في حركة المعارضة، «الإمام الحسين(ع)»، التي قامت من أجل اٌلإصلاح وإعادة اللحمة إلى بنيان الأمة على قاعدة «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».
ويمكننا القول إن كربلاء أعادت إنتاج وتأصيل مفاهيم الإسلام من خلال بث روح الوعي، وكشف الالتباسات التي كانت تلف الأمة، ما جعلها قضية متجددة تنطلق من أعماق التاريخ لتفتح الآفاق إلى الحاضر والمستقبل، كما أنها كشفت من جانب آخر عن مكامن الخلل في بنية السلطة ونمطية أدائها وآليات اشتغالها، ما يعبر عن معضلة حقيقية أحدثت الفرقة والانقسام في صفوف الأمة، والتي لا زالت تداعياتها تعشعش في واقعنا حتى اليوم وربما إلى المستقبل، إن لم نتخذ الحسين(ع) نموذجاً وقدوة للسير على نهجه، فنبذل التضحيات لانتزاع الحرية، ولتحقيق الوحدة. لا خلاف عند المسلمين من الناحية التاريخية في أن الإمام الحسين (ع) قد سار إلى كربلاء واستشهد في العاشر من المحرم سنة 61هـ، وأنه شخصية إسلاميةجامعة، وبالرغم من ذلك نجد أن الواقع يحفل بتفسيرات عديدة ومختلفة حول حركته أدت إلى وجود حالة من إنقسام المسلمين تجاه هذه الحركة الى ثلاثة أقسام:- القسم الاول من المسلمين وهم الآغلبية، تجاهل لهذه الحادثة العظيمة والتنكر لها رغم توثيقها في أهم مصادرهم وتبريرهذا التجاهل الخشية من العودة الى التاريخ المليء بالفتن هذا القسم من المسلمين يعتبر أن ما جرى في تلك العهود ليس لهم شأن بها ويتمثلون بقوله تعالى: {تلك امة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسالون عما كانوا يعملون} 134البقرة. – القسم الثاني من المسلمين وهم أقلية، يروا من مسؤوليتهم الحياد والوقوف على التل ويعتقدون في الذهاب حيث تقتضي مصلحة الناس مثلهم كمثل الذين وقفوا على التل في معركة صفين وقالوا «إن الصلاة مع علي أتم والطعام مع معاوية أدسم والوقوف على التل أسلم».- القسم الثالث من المسلمين هم الذين أعتبروا حركة الامام الحسين عليه السلام ليست حركة عادية ولا يمكن تجاهلها بل يدعون كل المسلمين لمراجعتها وكشف كل أوراقها لأنها في نظر هؤلاء تشكل الخطيئة التي أرتكبت في تاريخ المسلمين وأصبحت منهجاً في الحكم وإدارة الشعوب بنفس الطريقة التي أسسها معاوية وسلم أمرة المسلمين لولده يزيد.الحلقة الاولى من ثلاث حلقات التي سوف نناقشها في هذا العدد إيمان القسم الثالث وإعتقاده بإحياء هذه الذكرى كل سنة وبطرق مختلفة:الطريقة الأولى: المعالجة النظرية وكشف الحقيقة للمسلمين في نظرية الحكم والبيعة، ولعل المعضلة الأقوى التي واجهت المسلمين ما أقدم عليه معاوية بن أبي سفيان و تسمية ابنه يزيد ولياً للعهد سعياً منه لتطبيق مقولة أبي سفيان الداعية للاستيلاء على السلطة، «يا بني أمية تلاقفوها بينكم تلاقف الكرة، فوالذي يحلف به أبو سفيان ما زلت أنتظرها لكم ولتصيرن إلى أبنائكم وراثة»، ولكن هذا القرار لم يعبر على المسلمين واعترضته عقبات كثيرة، لعلّ أبرزها شخصية يزيد نفسه التي كانت تشكل استفزازاً لمشاعر المسلمين وخروجاً على قيم وتعاليم الإسلام وذلك لما اشتهر عنه من ميل لحياة اللهو واللعب، والنساء، واستهتاره وشربه للخمر واتصاله ببطانة السوء على حد تعبير الطبري.كان معاوية يعي صعوبة طرح هذه القضية على المسلمين لما ينطوي عليها من خروج عن المبادئ الأساسية التي حكمت المرحلة التي سبقت توليه السلطة، وتحويل الخلافة إلى «هرقلية»، وهذا شأن لا قبل للمسلمين به، ولكن بعض المتنفذين في السلطة الأموية وبدافع من المصلحة الشخصية وهو المغيرة بن شعبة قد زين له السعي بولاية العهد ليزيد، وذلك في خطوة منه لاستمالة معاوية بعد جفوة حصلت بينهما، وبالرغم من عملية التزيين هذه، ومحاولة القفز فوق المشكلات فإنه كانت تحول دون ذلك معوقات، خاصة من جانب المعارضة في كل من الكوفة والمدينة، حيث كانت الأولى تشكل مركز التشيع والثورة وناقمة على ما آلت إليه الأوضاع جراء الممارسات القاسية من قبل السلطة الأموية، أما الثانية فكانت تحمل رصيداً معنوياً من الناحيتين الدينية والتاريخية، فهي كانت تحتل مكانة سامية في نفوس المسلمين تجسد من قبل في حركة النبي (ص)، وموطن كبار الصحابة من أهل الحل والعقد وأبناء المهاجرين والأنصار وبعد تأمل وتفكر طويلين، حاول معاوية أخذ البيعة ليزيد من المدينة مراراَ بهدف اختصار الطريق لأنه إذا ما حقق هدفه فإن الشام لا حرج ولا مشكلة فيها، بل ستقاتل من أجل بيعته، وتبقى الكوفة، فإذا ما عارضت فإنها ستصبح مكشوفة، لأن قيادتها تكون قد سلمت بالأمر .
شخصية يزيد ومحاولات البيعة ولكن معاوية فشل في تحقيق ما كان يصبو إليه بالرغم من عمليات التجميل التي كان يقوم بها، والتي لم يكن آخرها محاولة مروان بن الحكم بعد أن أخفق زياد بن أبيه في المحاولة الأولى ـ في مطارحته لكبار الصحابة في المدينة حيث حاول أن يسم فيها يزيد بالشخصية التي تجمع روح الإلفة بين المسلمين، والتي يريد معاوية من خلالها الحفاظ على مصالح الأمة، وقد تجلى ذلك بقوله: «رأى أن يختار لكم ولي عهد يجمع الله به الإلفة، ويحقن به الدماء، وأراد أن يكون ذلك عن مشورة فيكم وتراض».وهذا ما يتناقض في الواقع مع شخصية يزيد، والأهداف التي رسمها الإسلام بشأن الخلافة، ولذلك فإن خدعته هذه لم تنطل على كبار الصحابة، حيث دحض عبد الرحمن بن أبي بكر مزاعم مروان، وكشف عن نوايا معاوية، بقوله: «كذبت وكذب من أمرك بهذا والله ما يزيد بمختار ولا رضىّ، ولكن تريدون أن تجعلوها هرقلية، ويزيد هو الذي أشتهر بالعب بالقرود، وعرف عنه الفجور، وشرب الخمور».ولكن هذا الأمر لم يطل حتى توفي معاوية، فخلفه يزيد في الحكم، وأصبح يحمل وسام إمرة المؤمنين، وهو الذي نفى الأسس التي ارتكز عليها هذا الموقع الهام (الوحي) عندما قال : «لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل».وكانت الخطوة الأولى التي فكر يزيد بالقيام بها عند استلامه الحكم أن يعمل على إرغام المعارضين لفكرة أبيه على البيعة له طوعاً أو كرهاً، فكتب لعامله على المدينة الوليد بن عتبة ليأخذ له البيعة بالقوة، وخاصة من الإمام الحسين(ع)، وحار الوليد في الأسلوب الذي يتبعه تجاه قضية من هذه النوع، وهو الذي يعرف مكانة الإمام الحسين(ع) في نفوس المسلمين، وما يمثله من منهج رسالي، وكان يدرك ما يمكن أن تؤول إليه عاقبة استخدام القوة، الأمر الذي دفعه إلى اعتماد أسلوب الملاينة بعكس ما كان يراه مروان بن الحكم، ولكن الحسين(ع) كعادته رفض أن يبايع يزيد منطلقاً بذلك من ثوابته الرسالية وقال للوليد: «أيها الأمير إنّا بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا يختم، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر، وقاتل النفس المحرمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون أيّنا أحق بالبيعة والخلافة».
Leave a Reply