بعد «الإشمئزاز» الإسرائيلي والأكثري
كان يتحدّث بلا خجل أمام الصحافة اللبنانية والعربية وربما العالمية (ومن خلف هؤلاء، لمن يهمه الأمر) ووراءه صورة «نوعية» لإبنه بيار الجميل، وعندما تطرّق الرئيس «الأكثر علواً» لحزب الكتائب اللبنانية صاحب شعار «الله الوطن عائلة الجميل» إلى موضوع أشلاء جنود الغزة الإسرائيليين الذي تحدّث عنه في اليوم السابق السيد حسن نصر الله، استثيرت فيه العاطفة الإنسانية والوجدانية فرعفت نفسه من هذا التوصيف المريع لكلمة «أشلاء» ووصف قتلى جنود الإحتلال الذين كانوا «ضيوفاً» على أرضنا يعلّمون «أصحاب الكمية» كيف يتحولون إلى «نوعيين وحضاريين»، بأنهم بقايا رؤوس وأرجل وجثث شبه مكتملة. سامح الله السيد حسن، ففي يوم الحسين بن علي (عليهما السلام) هل كان يتوجب عليه أن «يخدش» مشاعر أولمرت وجيش إسرائيل؟ لقد دخل جنود جيش «الدفاع» الإسرائيلي إلى قرانا ومدننا ودساكرنا في صيف العام 2006كضيوف يريدون مساعدتنا لكنهم عن طريق «الخطأ» طحنوا عظام الأطفال والنساء في «قانا» مع إسمنت بيوتهم، وهذه كانت المرة الثانية التي يعتدي فيها أطفال قانا ونساؤها على جيش «الدفاع» في المرة الأولى «تجرأوا» على الإختباء في مبنى تابع للأمم المتحدة و«تجاسروا» على الهرب من آلة الدمار الحربية الجهنمية. فالعربي الجيد بالنسبة لإسرائيل هو «العربي الميت» هي قاعدة معروفة!سامح الله السيد حسن فكيف يثير بلبلة في إسرائيل في هذا الوقت في حين أنها مشغولة بتنفيذ حكم الإعدام على شعب فلسطيني بأكمله في غزة حيث لا تفرّق الغارات الإسرائيلية بين طفل رضيع وإمرأة وكهل وسط رقصات ملكية عربية بسيوف مذهبة مع ضيف أميركي فوق العادة شطب تاريخاً بأكمله إسمه قضية فلسطين المقدسة وأعطى شرعية لعنصرية إسرائيل الصهيونية مقابل سراب إسمه دولة فلسطين التي ستولد بمشاكل لا حد لها ولا وصف، أوّلها شطب قضية عودة اللاجئين إلى ديارهم وخلق مشاكل ديمغرافية وسياسية في أمكنتهم وأوطانهم المؤقتة وخصوصاً في بلد كلبنان، الذي لم يكن ليولد اصلاً إلا فاقداً للسيادة.فإذا كان لا مفرّ ولا بد من الحديث عن بقايا الجنود الإسرائيليين في لبنان من أجل الضغط لإطلاق أسرانا وجثث شهدائنا من إسرائيل ومن أجل كشف زيف وإدعاء دول الإحتلال بأنها شنت حرباً بربرية مدمرة ضد البشر وأسباب العمران في لبنان من أجل جندييها المختطفين وهي الآن لا تعير لها ولا لأشلاء جنودها إهتماماً، إذا كان لا بد من الحديث عن ذلك كله كان يتوجب على السيد أن لا يجعل إسرائيل وفريق الأكثرية في لبنان يشمئزون من الأوصاف الغليظة لكلمة «أشلاء». كان يتعين عليه مثلاً أن يقول «أطراف» أو «أجزاء» أو «قطع» كقطع الليل البهيم الذي نحياه هذه الأيام بكل تفاصيله! إن للسيد سابقة إتهام إسرائيل بالتفجيرات الأمنية التي أيضا أثارت حفيظة الأكثرية فكيف يعيد الكرة ويؤذي إسرائيل في عنفوان جيشها!إن «اشمئزاز» أمين الجميل وغيره من السياسيين هو فعلاً من النوع الذي يستدعي التوقف عنده لبداحته وصلفه وغرابته حتى بالمقاييس المحلية اللبنانية التي لا حدود لدعارتها الفكرية ومفارقاتها وتناقضاتها.فأمين الجميل صنف غريب من السياسيين اللبنانيين، لازمه الحظ منذ ولادته إلى أن سقط هذا الحظ بالضربة القاضية على يد «الملاكم السياسي» الماهر الجنرال ميشال عون في إنتخابات المتن الفرعية.فمن وراثة عمه موريس الجميل في مقعد المتن (وقد اعترفت الإستخبارات الإسرائيلية بأنها فتحت خطاً مع الكتائب منذ العام 1952) إلى خلافه الشديد مع شقيقه بشير الجميل خلال فترة صعوده الدموي ثم إلى خلافته في رئاسة الجمهورية المحصلة أصلاً عبر الدبابة الإسرائيلية، إلى تدميره للضاحية الجنوبية (ونحن نقترب من ذكرى إنتفاضة 6 شباط)، إلى صفقات وسمسرات مالية (صفقة الطائرات الفرنسية)، إلى نفيه خارج البلد ثم عودته «معتدلاً» وعاموداً من أعمدة 14 آذار، كلها محطات إشمئزاز في تاريخ هذا السياسي الذي يقشعر بدنه للإستماع إلى كلمة أشلاء وبقايا، لكن لا يرفّ له جفن من المذابح الإسرائيلية بحق شعبه ولم يُعرف عنه أنه تعرّض لإسرائيل بكلمة واحدة أثناء مذابحها المتنقلة. لقد تحيّر المحللون في توصيف أمين الجميل هل هو من «اليمين المعتدل» أم هو متطرف أكثر من أخيه ولكن بقناع «معتدل»؟ ربما تعاطفه الأخير مع عائلات الجنود الإسرائيليين يعطي جواباً على هذا السؤال النوعي! إلا أن السموم لم تتوقف عند هذا الحد، فها هو ناسك «معراب» يخيّرنا بين وطنين إثنين لا ثالث لهما: وطن الأشلاء والرؤوس والأيدي والأرجل، أم وطن بكركي وجبران خليل جبران؟ (لاحظوا معي أنه لا ذكر لدار الإفتاء التي زارها يوماً مهنئاً، أو السراي، أو حتى «قريطم» فهل سقط هذا سهواً أم أنه يريد أن يبرهن شيئاً؟). إذا، على اللبنانيين أن يختاروا بين لبنان الأشلاء أو لبنان بكركي وجبران، ذلك لأن المقاومة هي التي أحضرت هذه الأشلاء وكانت السبب في ولادة دولة إسرائيلية وحروبها المستعرة المتكررة ضد لبنان، ولكن مهلاً فجبران تحدث عن «سوريا الكبرى» وطنه الأصلي ولم يعترف بفينيقيته فهل من الجائز وضعه في أحد خيارين؟ وجبران لو عاد حياً اليوم لتبرأ من كثيرين؟ إذا كان ناسك «معراب» يريد جواباً فإني أختار وطن الأشلاء لأنه وطن الكرامة والممانعة، وطن الشهداء الذين سيجوا بدمائهم حرية الوطن التي يتنعم بها حالياً هو وغيره لا الذين صنعوا مجدهم على جماجم أترابهم ومواطينهم. أني أختار وطن الفخر والإعتزاز والكرامة الذي يهز إسرائيل من أقصاها إلى أقصاها بكلمة واحدة بعد أن هزّت جيلنا بالمذابح والهزائم والكوارث منذ دير ياسين مروراً ببحر البقر وصولاً إلى قانا. نعم سجّل أني أنتمي بكل سرور إلى وطن الشرف والنقاء والبطولة لا إلى وطن إنصاف السياسيين الذين وصلوا على أشلاء الوطن و.. الناس.
Leave a Reply