وصلتني بعض الرسائل على البريد الأكتروني تعلق على الموضعات الثلاثة الأخيرة فسررت كثيراً رغم ما جاء فيها من وصف لا مكان له في قاموس الأدب العربي مثل «التهريج» و«الهذيان» لا للشيء ألا لكون الموضعات لا توافق هوى من بعث بالرسائل ففضلت الحديث لهذا الأسبوع عن التزاوج بين الإستبداد السياسي والكبت الفكري المنطلق من تحت عباءة الدين.
أولاً: تعريف الأستبداد
التعريف اليوناني تعني رب الأسرة أو السيد على عبيده ثم تطور المفهوم على يد رجل الفكر والسياسة «منتسكيو» فأصبحت في قاموس السياسة تطلق على شكل من أشكال الحكم، ومعناها أن الحاكم المستبد يمارس الكبت والتنكيل والإضطهاد ضد خصومه ومنافسيه ولا مكان لمفردات الحرية والعدالة والمساوة.
التعريف عند الكوكبي «هو تصرف فرد أو جمع في حقوق قوم بالمشيئة، وبلا خوف أو خشية» ثم يستغرق الكواكبي في الوصف ويقول: «ان المستبد يتحكم في شؤون الناس بارادته لا بارادتهم، ويحكم بهواه لا بشريعتهم، ويعلم من نفسه انه الغاصب المتعدي فيضع كعب رجله على افواه الملايين. المستبد عدو الحق، عدو الحرية وقاتلها، المستبد يتجاوز الحد مالم يرى حاجزاً».
التعريف عند النائيني: «هو أن يتعامل السلطان مع مملكته كما يتعامل المالكون مع اموالهم الشخصية، فيعتبر البلاد وما فيها ملكاً شخصياً له، ويجعل الشعب عبيداً له، فهم كالاغنام والعبيد والاماء لم يخلقوا الا له، فيقرب من كان وافياً لهذا الغرض متفانياً في تحقيق شهوات السلطان، (وينفي عن البلاد التي ظنها ملكاً شخصياً له ـ من وجده مخالفاً له)، وقد يعدمه أو يقدمه لقمة سائغة لكلابه، وما حوله من الذئاب الضارية».
وصف للحاله السائدة
في هذا الزمن أصبح الحاكم الأول والصوت النافذ الذي يحكم الناس بالفعل والقوة هو الإستبداد السياسي والإستبداد الديني فكلاهما ينطلقان من مبدأ واحد هو إدعاء الشرعية وفرضها على الناس بالقوة وتستخدم فيها كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة حتى بات التسلط والإستبداد بجناحيه الديني والسياسي أمراً مسلماً به عند السواد الأعظم من شعوب الأرض ممن هم تحت سيطرة أحد الفريقين وتذعن الشعوب المغلوب على امرها وتخضع لسياسة الإستبداد ولو أدى ذلك الى سحق كرامتهم وأنتهاك حقوقهم، والسبب هو التشريع لهذا الإستبداد ودوره فى تدجين الشعوب وتكريس أسوء الثقافات ومنها ثقافة الخوف من المجهول وتبرير الظلم والإستبداد فغابت مفاهيم «إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر »، أو حسب الفهم الديني لسنّة التغيير قول الله سبحانه }إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم{ وحلت محلها ثقافة الخنوع والقبول بالذل والهوان، أستمرء جسم هذه الأقوام إستعذاب الضربات والنكسات تلوى النكسات فلم يعد يفرق بين الوخز والطعن فالذل والهوان هو الموت ـ فمن يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إلم، ويترتب من ذلك الخنوع تلميع وجه الحاكم أيّا يكن ذلك الحاكم ملكاً كان أو شيخاً رئيساً ديمقراطياً أو جمهورياً أمير جماعة أو رئيس حزبي، ويكون إستبداده حسب حجمه وموقعه أما الحاكم المستبد فإنه يصل بسبب التمجيد والتبجيل والتعظيم والتفخيم والسمو الى مراتب الطغيان حتى، أصبح فرعون الذين كان يذبح أطفال قومه ويستحيي نسائهم ويستهين بمقدساتهم! تلميذا أمام هؤلاء الذين إستخفوا بعقول أقوامهم واستهزؤوا بقواعد التعاقد بينهم وبين شعوبهم فشملهم وصف هذه الآية في قوله تعالى }فاستخف قومه فأطاعوه{ وبذلك لم يعد للنصوص المقدسة أي تأثير في تعميمها بين الناس ونشر ثقافتها بل هي محصورة في شخص الملك والرئيس والشيخ والأمير، فهو العادل وغيره ظالم وهو المنصف وغيره الجائر وهو المحسن والكريم وغيره اللئيم والبخيل، ويحق له ما لا يحق لغيره من أبناء شعبه فيتصرف في الأموال بلا رقيب فيبني القصور والضياع ويبني المجد والتاريخ ولا يسمح لأحد أن يتقرب من عرشه وعرينه وإلا كان مصيره النفي أو الموت.
القبول بالإستعباد والخضوع للسلطان
تتعذر الشعوب المضطهدة بحجم الترهيب وممارسة التخويف، وأشكال التعذيب والتنكيل بابناء المجتمع لم يعد من اختصاص الحاكم المستبد فحسب بل انسحب الى دوائر طبقات المجتمع المقربة من السلطان التي تتمتع بحصانته وتنفذ سياساته من مصادرة إمكانيات البلاد المالية والأمنية، والدينية وهي الأسوء التي تشكل غطاء لهيمنة السلطان والتشريع لسياساته وإيهام الناس أنها من الدين، وهو حال الحكم الإستبدادي الذي منيت به الأمة الأسلامية بعد عصر الرسالة.
أسباب الخنوع وقابلية الإستبداد
التخلف الذي يفرضه المستبد على رعيته يصل على حد التجهيل بحقوقهم، يقول الشيخ النائيني «إن السجود للفراعنة، والطواغي، وعبادة الهنود للأبقار، وتملك الأمويين والعباسيين لرقاب الناس، وغفران البابوات ذنوب امتهم الخاطئة، وجلوس اليهود إنتظاراً للنبي الموعود، وتبعية الإيرانيين وغيرهم من المسلمين لكل ناعق وميلهم مع كل هوى، كل تلك الصفات في تلك الأقوام هي بفعل الإرادات التسلطية».
Leave a Reply