«من جعبة الذكريات»
حلقات أسبوعية
بقلم الصحافي الحاج علي عبود
قمت بزيارة الجمهورية العربية اليمنية مرات عديدة، وفي مناسبات كثيرة وخلال ثلاثة عقود من الزمان، سبقت التسعينات من القرن المنصرم لدرجة أنني بت مدمنا على زيارة اليمن والتعايش مع ناسها وأهلها الأطايب. وفي كل زيارة كنت أخصص أسبوعاً بكامله لزيارة لواء أو محافظة أو مقاطعة من المقاطعات وبالذات زيارة المدن المشهورة حتى جاء يوماً لم أعد أشعر بأية غربة بل أحسست بأن أواصر المودة والصداقة بيني وبين معظم أبناء اليمن باتت قوية ومتينة.
ومن تلك الزيارات التي لا تنسى أبدا، زيارة قمت بها لليمن وكان الوضع العسكري بين أعداء الثورة وأهلها متأرجحاً والبلاد على أبواب حرب وإغتيالات، وإن هي إلا فترة وجيزة حتى حوصرت صنعاء حصاراً شديداً، ثم تبع الحصار قصفاً بقنابل الهاون يومياً، وقد استهدف الحصار السفارات العربية وغيرها ودوائر وتجمعات الموظفين، حتى لم يعد باستطاعة أي موظف مهما علا كعبه أن يبقى في مكتبه أكثر من ربع ساعة، ومن ثم يختفي في مكان آمن كي لا تطاله قذائف الهاون وشطاياها.
الشعب يحمل السلاح للدفاع عن الوطن
وكيف لهذا الموظف أن يداوم وقد دعاه الواجب الوطني لحمل السلاح للدفاع عن الوطن وسيادته وكرامته وثورته التي قدم على مذابحها القرابين الغالية كي يبقى هذا الوطن عزيزا مكرماً. حتى كاتب هذه الحلقة بعدما رأى أن الشعب قد حمل كل سلاحه بيمينه وانتظم في فرق للقتال والدفاع عن الوطن رأيتني أنضم إلى فريق كومندوس حاملا سلاحي وفي مطار صنعاء وما حوله من مواقع عسكرية كانت جميع فرق الكومندوس بأمرة وقيادة العقيد عبد الله بركات الذي، بعد انتهاء الحرب الأهلية في اليمن، التحق بالسلك الدبلوماسي وبات سفيرا لليمن في السودان الشقيق.
وقد قابلته فيما بعد في مكتبه بالسفارة اليمنية في العاصمة السودانية الخرطوم. كانت فرق المقاتلين الأبطال تتبع أوامر وتوجيهات القائد العقيد عبد الله بركات. لذا رأيتني أتعرف على العديد من أهل السياسة والحكم، والمشايخ والعديد من الوزراء وكذلك الضباط الذين قدموا للثورة وللدولة والوطن أغلى ما يمتلكون. إنها صداقات كنت ولا أزال أعتز بها دائماً وأبداً.
إنقلابات وإغتيالات
لقد تناوب على حمل المسؤولية السياسية في اليمن نُخب عديدة من أهل السياسة وذوي المناصب العسكرية الرفيعة. فمنهم من خرج من الحكم تحت ضغوطات محلية وعربية ودولية وأفريقية ومنهم من بقي في الحكم حتى تم إغتياله كالعقيد إبراهيم الحمدي. ومنهم من انقلب عليه أصدقاء الأمس وباتوا له أعداء وكانت القاهرة الحبيبة هي الحضن الدافيء الذي طالما احتضن رجال السياسة وأهل الحكم الذين دالت دولتهم، فخرجوا من ديارهم قاصدين الحضن الحنون القاهرة الحبيبة، ومنهم من يطول شرح أسباب خروجه من الحكم ودخوله السجن دخول «الأبطال» فليس هذا هو مجاله.
لذلك، رأيت وبعد أن استطاعت قوات الثورة اليمنية أن تقضي بقوة على أوكار الخصوم الذين طالما قصفوا صنعاء وما يجاورها بقنابل الهاون دون شفقة أو رحمة رأيتني بعدها أقرر زيارة لواء إب وإن أزور مدينة جبلة للتعرف إلى ملكة طالما تحدث التاريخ عنها حديثاً مشرّفا في إدارة شؤون البلاد وما حققته لها من إنجازات لا تزال تتحدى الزوال والفناء.
صلاح الدين الأيوبي يطلب يدها للزواج
فمن هي هذه الملكة التي رفضت أن تتزوج من صلاح الدين الأيوبي، بالرغم من العروض المغرية ومن هي هذه الفتاة التي تربعت على عرش المملكة التي كانت لها حدوداً واسعة وعريضة.
ملكة وعرش وحياة كئيبة
لذلك نقول، إنها الملكة أروى بنت أحمد الصليحي. نشأت في صنعاء وتزوجت إبن عم لها، وكان عمرها لم يتجاوز الثامنة عشر بعد. كما كان سن زوجها يقارب سنها، كان قد ورث الحكم عن والده كملك اليمن، وكانت أعداد الملوك يومئذ كثيرة.
وكانت لمملكته هذه حدودا واسعة تضم جزر القنفذة في البحر الأحمر وتضم المملكة عدن وكان في عدن ميناء واحداً لا غير وهو الميناء البحري الوحيد. أكدت بعض المراجع التاريخية أن حدود هذه المملكة كانت تتصل بعمان وكذلك الطائف شمال غرب إلى نهاية عمان شرقاً وكذلك كانت الطائف وعسير وجيزان ونجران وجزر القنفذة في البحر الأحمر، وكذلك كان الربع الخالي بكامله ضمن حدود هذه المملكة.
زواج ثم وفاة
بعد أن تزوجت أروى إبن عمها أصيب بمرض خطير وكان في العشرين من عمره. ومعلوم أن صنعاء مدينة ترتفع عن سطح البحر عشرة آلاف قدماً تقريباً وبردها قارص وقاسي فأصيب الزوج بشلل نصفي وقد رزقا طفلا قبل أن يصاب بالمرض الذي أقعده عن الحركة لذا رأت أروى بنت أحمد أنها أمام ملك مشلول بشكل نصفي وعندها طفلا صغيرا، فتقدمت إلى سدة الحكم، ثم عينت ملكة بالنيابة وذلك كي تدير دفة البلاد وترعى شؤون العباد كل ذلك تم بموافقة أهل الرأي والقرار مطبقة سنة من سنن الله تعالى: و«شاورهم في الأمر».
الإستعداد لزيارة مدينة جبلة
المهم وصلنا إلى جبلة وترجلنا من السيارة السائق وكاتب هذه الحلقة وبعد أن أخذنا إستراحة وأدينا صلاة الظهر، قمنا بعدها لنزور هذا المسجد الأثري التاريخي الكبير ونزور ضريح الملكة التي ترقد بحرمه.
جبل التعكير وغيوم دائمة
عرفنا من المرشد أن في جبلة جبلا يسمى (جبل التعكير) والملفت للنظر أن هذا الجبل دائما ترى السحاب الأبيض يغطيه ويحيط به من كل جانب. لذا أقدمت أروى بنت أحمد على بناء بيت لزوجها المريض وذلك فوق قمة هذا الجبل أملاً في أن يشفي الله زوجها من مرضه العضال، لكن الزوج الصبور مات قبل أن يكتمل بناء البيت وهو في العقد الثاني من عمره.
مبايعة بلقيس
لذلك تمت مبايعتها ملكة على العرش وتولت الحكم بعدها وستظل تحكم كملكة حتى يكبر الإبن ثم تتنازل له عن العرش. كبر الفتى، نعم كبر، وبقدر ما كان يكبر وينمو جسده كان عقله يتآكل حتى بات متخلفاً عقلياً تماماً، فتوكلت على الله وقررت أن تحكم اليمن، وحكمتها طيلة ستة عقود حتى بلغت العقد الثامن من عمرها، فاختارها الله تعالى لجواره، وليسكنها فسيح جنانه.
الملكة أروى بنت أحمد أو بلقيس الصغرى
استطاعت بلقيس الصغرى، وهذا اللقب كان قد أطلق عليها بعد أن تولت مهام المُلك وبدأت تدير شؤون المُلك بعقلية متنورة، وفكر ثاقب، ونظرة واقعية إلى جميع الأمور المرتبطة بحياة الشعب إرتباطاً وثيقاً، لذا رأيناها أثناء حكمها تهتم إهتماماً كاملاً بجامع صنعاء، وكان هذا المسجد قد بني أيام الملك بإذان، وكان هذا موالياً وحاكماً بإسم الفرس، وعند ظهور الإسلام الحنيف أرسل رسول الله محمد بن عبد الله (ص) إبن عمه عليا إبن أبي طالب (ع) ومعه الصحابي الجليل معاذ بن جبل لحكم اليمن، وقد أنشئ المسجد المذكور في حديقة بإذان في صنعاء.
توسعة مسجد صنعاء
لقد أدخلت الملكة بلقيس الصغرى على المسجد توسيعات كبيرة وقد سُمي المسجد فيما بعد بإسمها أي جامع أروى بنت أحمد – حتى أيام محسن العيني الذي كان رئيساً للوزراء في اليمن. إذ أقدم العيني، على تبديل إسم المسجد الذي يحمل إسم الملكة أروى فأصبح يحمل إسم المسجد الكبير فقط.
ثم أنشأت بعدها مسجد جبلة الذي يحمل إسم الملكة، ولا يزال يُعرف بهذا الإسم حتى اليوم. لن نتطرق إلى الدوافع التي حدت بمحسن العيني ليبدل إسم المسجد ويُطلق عليه إسماً آخراً.
لم تقتصر مشاريع الملكة أروى بنت أحمد على إنشاء المساجد وحسب، وإن كان هذا أمراً ضرورياً وهاماً، إلا أن الأمر تعدى نطاق بناء المساجد في صنعاء إلى مدن أخرى، كتعز وعدن والعديد من المدن اليمنية. وكان من ضمن أعمالها أيضا أنها تولت رصف وتبليط شوارع المدن الرئيسية بنوع من الحجارة وهذا النوع لا يزال موجودا وقائماً حتى الآن.
إنشاء المدارس
لقد قامت أيضا بتأسيس وإنشاء المدارس في لواء الحديدة، وزبيد، وتهامة ثم جعلت منها فيما بعد جامعة إسلامية لتدريس الفروع والمواد الدينية كلها. في ذلك الزمن الماضي لم يكن في تلك النواحي ولا في تلك المناطق أو الضواحي النائية أية تجمعات بشرية، قبائل أو سكان أو مجموعات بشرية، ولو كان هناك أي حضور إنساني لكان في الإمكان أن تنضم هذه الجماعات إلى الوطن الأم، إلا وهي اليمن.
وفي الحلقة القادمة تفاصيل عن مهر الملكة أروى في يوم زفافها. وإلى حلقة قادمة
Leave a Reply