ميشيغن واحدة من بضع ولايات أميركية، برغم ما تمر به من أوقات إقتصادية صعبة على مدى السنوات الماضية، تجلّت في تراجع معدلات نموها الإقتصادي وإرتفاع منسوب البطالة فيها، مصحوب باحتلالها مركزا متقدما ضمن الولايات المتأثرة جدا بانهيار السوق العقاري، وبرغم هجرة السكان منها إلى ولايات أكثر إزدهارا ومنهم المهنيون والعلماء ورجال الأعمال، برغم ذلك كله ما فتئت تسّن قوانين وتتخذ إجراءات من شأنها عرقلة إمكانية تعجيل الخروج من أزمتها وإستعادة مكانتها الإقتصادية والإجتماعية.
فهي إضافة إلى أنها من أولى الولايات في غلاء المعيشة لناحية تكاليف العلاج الصحي وأجور المساكن والضرائب المفروضة على التبغ والمحروقات، مناخها شديد البرودة شتاء وصيفها حار وعالي الرطوبة، وتفتقد إلى متسع من أماكن اللهو والترفيه والصروح الثقافية باستثناء شمالها العامر بجزر ومنتجعات لا يؤمها سوى طبقة الموسرين.
ميشيغن ولاية طاردة للمقيمين فيها ومنهم الفقراء والطبقة المتوسطة وحتى فئة المتقاعدين، وهي من فرط إنتكاسة إدارتها كادت حكومتها العام الماضي تعلن إفلاسها وتغلق قطاعات خدمية غاية في الحيوية من تعليمية وصحية وترفيهية. يكفي أن في هذه الولاية مدينة كـ ديترويت تحتل سنويا المرتبة الأولى في معدل الجرائم من قتل وسرقة سيارات وإتجار بالمخدرات، هذه المدينة كانت في الخمسينات من القرن الماضي عامرة ومزدهرة بلغ عدد سكانها مليوني نسمة، وأضحت الآن مدينة معظم مبانيها مهجورة تناقص عدد سكانها إلى النصف، وهي أشبه بمدينة خارجة لتوها من الحرب، لدرجة أن كاتبا في صحيفة ديترويت نيوز هو نولان فينلي طالب إدارة المدينة في مقالة له، بجلب عشرات الألوف من اللاجئين في مناطق الحروب في العالم، ومنحهم تلك البيوت المهجورة لإعمار المدينة وبث الحياة فيها، وكأن القائمين على هذه المدينة وعلى الولاية برمتها تلقفوا رسالة فينلي بالمقلوب، وأصبح كل مسؤول في قطاعه يتفنن في أساليب التضييق على المقيمين، لعل آخرهم سركتيرة الولاية تيري لين لاند التي أسهمت بمشروع قانون رخص القيادة المعززة، بحيث يتسنى حتى لشرطي المرور أن يكشف عن الوضع القانوني لحامل البطاقة، لا يكفي ما يلاقيه ما يسمونهم بـ«المهاجرين غير الشرعيين» من ملاحقة واستهداف وإغلاق أبواب في وجوههم، برغم أنهم يشكلون وقود الحضارة الأميركية، فهؤلاء جنود مجهولون يقبلوا بالعمل في وظائف دنيئة لا يرضاها الأميركيون، والقول أن هؤلاء جهلة وحثالة في مجتمعاتهم الأصلية، قول مردود، فقد التقيت أثناء زيارة لي للولايات المتحدة بطبيب مصري يعمل بمحطة وقود وبطيار حربي في نظام إيران السابق يعمل سائق تكسي وبقائد قطار كهربائي قادم من بلغاريا يعمل في التنظيف.
كان الرئيس الأميركي جورج بوش طرح رؤية أثناء ولايته الثانية بضرورة تعديل وضع المهاجرين غير الشرعيين، ليس حبّا فيهم ولكن لتحقيق مصالح أميركا الأمنية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية، ولو أن مشروعه هذا مرّر في الكونغرس لكسبت الولايات المتحدة عشرة ملايين مواطن من فئة عمرية شابة، كانوا سيرفدوا المجتمع بدماء جديدة عوضا عن أن تصبح أميركا دولة هرمة كألمانيا نسبة المسنين فيها متفوقة على نسبة الشباب.
أنظر إلى كندا، دولة لا تجد فيها شريحة سكانية إسمها «المهاجرون غير الشرعيين» فالداخل إليها عبر المطارات والحدود تمنحه السلطات صفة قانونية على الفور، فهو أما طالب لجوء أو طالب هجرة وهو في كلتا الحالتين يعامل معاملة إنسانية لناحية الإقامة والعمل والتأمين الصحي بل والمساعدات الإجتماعية إن كان مستحقا لها، لحين البت في أمره فأما أن يمنح إقامة دائمة تؤهله الحصول على الجنسية وأما يعاد من حيث أتى، دون المسّ بكرامته وتوفير مستلزمات حياته الاساسية.
ميشيغن طبقت قرارات وتشريعات في الآونة الأخيرة تمنع بموجبها المهاجرين غير الشرعيين من الحصول على رخصة القيادة، وهي بذلك توقف حركتهم وإمكانية إنتقالهم وكسب عيشهم، وهي فرضت حتى على الأميركيين والكنديين شروطا حازمة للتنقل بين البلدين، مسببة بذلك هدرا لملايين الدولارات يوميا كان سينفقها الكنديون في ديترويت.
إن كانت هذه الإجراءات وغيرها إتخذت لأسباب إقتصادية فهي فاشلة، أو كانت لأسباب إجتماعية فهي فاشلة أيضا، أما إذا كان الهدف أمنيا فذلك هو الفشل بعينه، فالذين نفذوا أحداث 11 سبتمبر الإرهابية كانوا إرهابيين قبل أن تطأ أقدامهم أرض الولايات المتحدة، ولم يكونوا مهاجرين جاءوا إلى هنا لكسب عيشهم وتحقيق مستقبل أفضل لأبنائهم، وتلك مصيبة أن يعاقب ملايين من البشر لجريمة إرتكبتها حفنة من المجانين.
Leave a Reply