بعد أسابيع قليلة من اعتذار رئيس وزراء استراليا كيفن رود ممّن تبقى من ملايين السكان الأصليين الذين أبيدوا في استراليا عمّا ارتكبه المستوطنون البيض ضدّهم… وفي أعقاب المجازر الوحشية التي ترتكبها يومياً حكومة أولمرت في غزة والتي راح ضحيتها خلال الأسبوع الأول من آذار الجاري أكثر من 130 من المدنيين ثلثهم من الأطفال والرضع وأمهاتهم. يتخذ كيفن رود نفسه وآخرين من كلا الحزبين الحاكمين في استراليا قراراً في البرلمان يعتبر إسرائيل « راعية للحرية » مع تهنئتها بعيد تأسيسها الستين على أنقاض حريّة فلسطين وآلام شعبها. وأضاف إليه بريندان نيلسون زعيم الحزب الليبرالي المعارض بأن «إسرائيل هي الراعي لحرية الكلام وحرية الدين وحرية التجمع». والسؤال هو هل يعني هذا التأييد أنّ هذا البرلمان الذي تفضّل بإصدار اعتذار لن يفيد شعباً أبيد إبادة كاملة، يرغب بتأييد كيان يستخدم أساليب الإبادة ذاتها للاستيلاء على فلسطين ؟ وهل يجب على من يتبقّى من شعب فلسطين أن ينتظر مئتي عام متحمّلاً التهجير والإبادة اليومية كي يعيد التاريخ الغربي بشاعة نفاقه من جديد فيعتذر رئيس وزراء ما عن الإبادة ؟ وهل يقصدون بحرية الدين حرية الدين اليهودي فقط في السيادة على أرض فلسطين بعد أن أعلنت إسرائيل وراعيها بوش أنهم يريدون أن تكون دولة يهودية وحسب !؟ وهل يقصدون بحرية التجمّع حرية تجمّع اليهود فقط فيما يحتفظ العرب بحرية التهجير والتنكيل ومصادرة أرضهم وهدم بيوتهم ؟ لا أجد وصفاً لما قام به أعضاء البرلمان الاسترالي أبلغ مما عبّر عنه أعضاء في حزب العمل ورؤساء نقابات الذين رأوا في هذا القرار «احتفاءاً بانتصار العنصرية والتطهير العرقيّ للفلسطينيين». ولم يغفل الذين انطلقوا في صنع هذا القرار من معلومات إسرائيلية بحته أن يشيروا إلى أن «واحة الديمقراطية» تقع في منطقة مليئة «بالحكومات الأوتوقراطية والدينية والفردية» مع أن حكومتهم تعتبر أغلب هذه الحكومات بـ«الصديقة» أو «المعتدلة»! تستمر إسرائيل في ارتكاب مجزرة القتل اليومي المتواصل براً وجواً مستخدمة الأسلحة الأميركية الفتاكة والتمويل السخي الذي يقدّمه الكونغرس المعبأ بالكراهية لكل ماهو عربي لقتل المزيد من المدنيين العرب بهدف إبادتهم والاستيلاء على أرضهم، تماماً كما كان الأبورجينز يُقتلون ويُجلدون أذا تحدّثوا بلغتهم الأم، وتتمّ تعريتهم وكتابة الأرقام عليهم، ويتم خطف أطفالهم لأنهم كانوا متّهمين بـ«التخلف»، بينما الإنسان الأبيض «أكثر تحضّراً» ولذلك لم يجد أمامه سوى إبادتهم وقتل أطفالهم!
الدافع الوحيد للقتل التاريخي هناك والقتل اليومي المتواصل في فلسطين، هو الدافع العنصري الذي يعبأ الغربيين بالكراهية ضدّ من يبدو مختلفاً عنهم بالشكل، فهم لذلك ضدّ العرب، وهم ضدّ العرب لأنهم يدينون بديانة مختلفة، ويحملون ثقافة مختلفة.
في قرار البرلمان الاسترالي هناك مشكلتان حقيقيتان: المشكلة الأولى هي أنّ هذا البرلمان يتبنّى الدعايات الإسرائيلية العنصريّة ضدّ العرب. والمشكلة الثانية هي أن الأموال الصهيونية تُحكم الخناق على الوسائل الإعلامية هناك، كما في بقيّة العالم الغربي، فتمنعها من الوصول إلى مكان الجريمة الإسرائيلية ، فيتحوّل الشهداء العرب، من أطفال ورضّع، إلى أرقام عن «مسلحين»، أو «إرهابيين»، أو «مطلوبين»، أو «مشتبه بهم»، وتتناقل الوكالات الدعاية الإسرائيلية، بينما تُدفن حقيقة الجرائم التي ترتكبها آلة الموت الإسرائيلية ضدّ شعب يدافع عن الحريّة والسلام، و يكافح للتخلص من قمع وقسوة وإذلال احتلال أجنبي بغيض، ناضلت ضدّه شعوب الأرض قاطبة وفاخرت بمقاومي الاحتلال والعنصرية، وأشادت لهم النصب في ساحاتها العامة، بينما تعمد الدعاية الإسرائيلية على وصف المقاومين العرب للاحتلال الإسرائيلي بأنهم «إرهابيون».
نشرت «نيويورك تايمز» في 13/3/2008 عن قتل إسرائيل لخمسة شبان فلسطينيين في الضفة بلغة تبرر القتل: «هؤلاء الشباب مطاردون من قبل إسرائيل لسنوات» والحقيقة هي أنّ الشعب الفلسطيني كلّه مطارد من قبل فرق الموت الإسرائيلية منذ ستين عاماً، عندما ادّعت أنّ فلسطين هي «أرض بدون شعب». وحين أثبت الشعب الفلسطيني وجوده، وتمسّكه بأرضه، تريد الطغمة الدموية الحاكمة في إسرائيل أن تحوّله بنظر العالم إلى «شعب إرهابي»، وتحوّل المنطقة إلى منطقة «مليئة بالأوتوقراطيين والنظم الدينية». وحقيقة «واحة الديمقراطية»، التي يتفادى الغربيون الاعتراف بها، هي أنها كيان عنصري ديني متطرف، يرفض العيش مع جيرانه، ويشنّ الحروب المتتالية عليهم منذ تأسيسه، من أجل التوسع والاستيلاء على أراضي العرب، ويحاول بارتكابه المجازر اليوميّة تطبيق التجربتين الأميركية والاسترالية في إبادة السكان الأصليين.
كرّست إسرائيل الجهد والمال لدفن جرائمها وذلك عبر منع الإعلام الحرّ من الوصول إلى مواقع الجريمة. وحين حصل خرق بالصدفة وتم تصوير ارتكاب الجريمة كما كانت الحال في جريمة اغتيال الطفل محمد الدرة، أخذت إسرائيل تختلق أكاذيب للتغطية على الجريمة، مع أنها ترتكب يومياً جرائم لا تقلّ بشاعة ضدّ أطفال غزة وفلسطين ولبنان. وبسبب سطوة الإعلام الغربي المنحاز تماماً لإسرائيل، فإن العرب يُسمَّون «إرهابيين» بينما لا أحد يطلق صفة الإرهاب على من ارتكب كل تلك الجرائم الوحشية التي يتعرض لها المدنيون الفلسطينيون! فالصحف الغربية انشغلت لمدة أسبوع على الأقل برثاء الطلاب الثمانية الذين قتلوا في المدرسة التلمودية في القدس مخبرين العالم عن المأساة التي حلّت بأمهاتهم وأهليهم وأقاربهم، بينما لم تأت ولو وسيلة إعلامية غربية واحدة على ذكر آلام الأسر الفلسطينية التي فقدت أطفالها والرضع الأبرياء والأمهات والآباء الذين دفنتهم الصواريخ الإسرائيلية الأميركية الصنع والتمويل تحت أنقاض منازلهم، ولم تذكر تلك الصحف الغربية، التي تتسابق على نشر الرسوم المسيئة للرسول (ص)، الحياة التي دمّرها هذا القتل الإسرائيلي الهمجي، ولم تعِرْ أيّ أهميّة للأثر الذي تركه فقدان هؤلاء الأعزاء على حياة ومشاعر أسرهم وأهليهم.
إن العقلية العنصرية ما تزال تتحكم بالإعلام الغربي الذي يكرّر عبارات أصبحت جوفاء عن «الحرية» و«الديمقراطية» و«حقوق الإنسان» لأنه ينتهكها كلّ لحظة حين يتعلّق الأمر بالعرب، الذين تتوجّه إليهم اليوم مدافع الكراهية الغربية، التي ترى أنّ العرب لا يتمتّعون بالمشاعر والقيم ذاتها التي يتمتع بها أصحاب السحنة البيضاء. إن قرار إسرائيل بمقاطعة «الجزيرة» لأنها كما تقول هآرتس (13 آذار) «تحرّض على العنف والإرهاب» يُري أن إسرائيل تريد من كلّ المحطات الفضائية أن تتحول إلى «سي أن أن» أو «الحرّة» التي يسيطر على لغتها صمت القبور، حين ترتكب إسرائيل مجازرها الدموية اليومية، والتي أصبحت ناطقة رسمية حصريّاً باسم وزارة الحرب الإسرائيلية وفرق الموت التابعة للمخابرات الإسرائيلية تذيع ما تصرّح به هذه الوزارة ومسؤولي هذه الفرق الذين يظهرون على شاشاتها، ويصيبها العمى والبكم عندما يسقط أطفال غزة تحت نيران الصواريخ الإسرائيلية. وهكذا فإن إصرار الإعلاميين أمثال توماس هورندال، وجيمس ميللر، من بريطانيا وراشيل كوري من الولايات المتحدة على قول الحقيقة أدى إلى اغتيالهم على يد « راعية الحرية»، لأن الكاميرا والكلمة اليوم هما العدو الأخطر بالنسبة لإسرائيل، تماماً كما لحكام الولايات المتحدة. ولذلك أدعو السيد كيفن رود، والسيد بريندان نيلسون، إلى إرسال كاميرات وإعلاميين من استراليا إلى غزة ليكتشفا بعد ذلك أي مجازر دموية يندى لها جبين الغربيين جميعاً ترتكبها باسمهم منذ ستين عاماً بشعة مرّت على الشعب الفلسطيني «واحة الديمقراطية»، تلك التي يتباهون بها. إن الإعلاميين في الغرب اليوم يتعرّضون لكمّ الأفواه، بل للموت والتعذيب في سجون المخابرات الأميركية والإسرائيلية السريّة والعلنية ، إذا تجرأوا وقالوا الحقيقة عن المجازر الإسرائيلية ولذلك ترى الإعلام الغربي واحداً موحداً وكأنه روبوت خرج من قالب عنصري صارم، فهو مصمم على حماية «حرية» حكام إسرائيل في قتل العرب وعلى الدفاع عن «حرية» بوش في انتهاك حقوق العراقيين وتعذيبهم وإبادة الملايين منهم.
بقي على العرب أن يروا هذه المخاطر العنصرية التي تحيق بأمتهم وأن يبصروا حقيقة العدوّ، الذي يوغر صدور بعضهم ضدّ بعض، كي يستكمل مخططه بالقضاء عليهم جميعاً.
Leave a Reply