«ألمانيا لن تتخلى ابداً عن اسرائيل وستبقى شريكتها وصديقتها الحقيقية» تلك كانت احدى العبارات الكثيرة التي فاض بها خطاب المستشارة الالمانية انجيلا ميركل بحب اسرائيل وهي تخاطب اعضاء الكنيست الاسرائيلي في وقفة تاريخية غير مسبوقة لمستشار الماني منذالحرب العالمية الثانية التي اسست لذاكرة المحرقة اليهودية.
عشرة من نواب الكنيست انسحبوا من الجلسة، ليس لان كلام المستشارة الالمانية لم ينل اعجابهم، بل لانه قيل باللغة الالمانية التي لا يودون حتى سماعها في اسرائيل، رغم اجتهاد المستشارة في اقحام كلمات عبرية في خطابها واعتذارها عن عدم الالمام بلغة القوم العبرية واضطرارها الى استخدام لغتها الام.
زيارة ميركل لاسرائيل عشية احتفالها بالذكرى الستين لتأسيسها على ايدي شتات يهود المانيا والعالم وعلى انقاض فلسطين ونكبة شعبها المستمرة منذ ذلك التاريخ، جاءت لتعيد تأثيث ذاكرة المحرقة اليهودية والتأكيد على «المسؤولية الخالدة عن الكارثة الاخلاقية التي وقعت في التاريخ الالماني» كما خاطبت ميركل ممثلي «الديموقراطية الاسرائيلية» من على منبرها الاول.
نسجت ميركل على منوال المستشارين الالمان واضافت مسحة عاطفية على خطابها المكرس للرفع من شأن المعنويات الاسرائيلية امام اخطار الوجود الماثلة على عتبة الذكرى الستين للتأسيس. لم تشأ ميركل طمأنة «الشعب اليهودي» في اسرائيل الى وجوده بعبارات تضامن تقليدية، فهذا الشعب الذي يشعر للمرة الاولى منذ تأسيس كيانه الغاصب على ارض فلسطين بأخطار وجودية بات بحاجة الى الدعم النفسي قبل العسكري بعدما فقد جيشه جزءاً من هيبة الردع التي حققت للدولة العبرية انتصارات سهلة على جيوش الانظمة العربية في اربعة حروب كبرى منذ تأسيسها، اذا ما استثنينا غزوها الكبير للبنان عام 1982 واحتلالها لاول عاصمة عربية.
اطنبت ميركل في وصف معاناة الشعب اليهودي جراء المحرقة التي ارتكبت باسم المانيا وكررت مشاعر «العار» الذي لا يزال الالمان والاوروبيون يعيشون اسرى له طيلة العقود السبعة التي انقضت على المحرقة الالمانية. كان من الصعب على ميركل ان تلتفت ولو باشارة عابرة الى معاناة الفلسطينيين الذين يعيشون محارق يومية في غزة وباقي الارض الفلسطينية المحتلة. بل ان ميركل لم تمتلك الجرأة لتذكير مضيفيها بأن قادتهم العسكريين هددوا بالامس القريب بارتكاب محرقة في قطاع غزة المحاصر رداً على صواريخ بدائية تطلقها فصائل فلسطينية على مستعمرة سديروت.
لم تكن اللحظة الالمانية «التاريخية» التي ارادت من خلالها ميركل رفد ضحايا المحرقة النازية بجرعة من الدعم المعنوي والسياسي تتسع لنُصح قادة اسرائيل «الديموقراطيين» بأن اقصر الطرق الى السلام الذاتي ومع الغير يكون بالابتعاد عن كل ما يذكر بمأساة اليهود في اوروبا.
فالفلسطينيون باتوا شعباً متروكاً لاقداره، والمعايير الاخلاقية المطبقة على اضطهاد اليهود لا يجوز تطبيقها على الشعوب الاخرى «الدونية» ومنها الشعب الفلسطيني الذي دفع من غير ذنب ثمناً غالياً طيلة ستين عاماً لخطيئة الالمان والاوروبيين بحق اليهود.
لا تُلام المستشارة الالمانية في وقوفها على اطلال «الشوا» (المحرقة)، وذرف دموع التماسيح على ستة ملايين يهودي، فالعرب والمسلمون باتوا بسبب تفرقهم عن حقهم واجتماع العالم على باطله لقمة سائغة ونهباً سهلاً للمطامع العالمية بثرواتهم، بعدما ارتضوا منذ نكبة فلسطين بأن يظلوا وكلاء للغرب الديموقراطي على ارثه المهجور ولم يبذلوا ادنى جهد لرفع شأن الانسان العربي في اذهان هذا الغرب الذي يندفع هذه الآونة مذعوراً من الاخطار التي تتهدد مصير صنيعته في المنطقة العربية على ايدي بعض الحركات الاسلامية التي اسهم الغرب ذاته في نشأة بعضها ورعايته لمواجهة المد الشيوعي «الكافر» ابان الحرب الباردة التي انتهت بسقوط «امبراطورية الشر» الشيوعية كما كان ينعتها ريغان.
لم تنس ميركل التحذير من «الخطر الايراني» فحرصت على اسماع اعضاء الكنيست الاسرائيلي ما يرغبون بسماعه معتبرة ان على ايران اقناع هذا العالم بسلمية برنامجها النووي ومهددة بفرض عقوبات اضافية على طهران.
تناغمت ميركل مع النظرة الاسرائيلية التي تحصر الخطر في ايران وتدفع الحلفاء الغربيين الى تبني هذه النظرة والعمل على حسم «الحرب الباردة» التي تخوضها الدولة العبرية مع الجمهورية الاسلامية الشيعية واذرعها المسلحة في المنطقة.
لم يعد هنالك خشية اوربية مما كان يطلق عليه «الموقف العربي الموحد» تجاه القضية الفلسطينية. كيف لمسؤولة اوروبية من طراز المستشارة ميركل ان تقيم وزناً لموقف عربي وهي تؤدي هذه الصلاة السياسية في محراب الكنيست الاسرائيلي فيما العرب منقسمون على ذاتهم ويكافحون ليل نهار من اجل تأمين ظروف انعقاد قمة دورية لدولهم، بصرف النظر عن حظوظ نجاحها التي تبدو شبه معدومة. وكيف لهذه الزعيمة لدولة اوروبية ملتزمة «اخلاقياً» بأمن ووجود اسرائيل أن تهتز قناعاتها بحيوية تفوق الكيان الصهيوني على مجموع الكيانات العربية اذا كان العرب في عصر الدول المدنية قد اخفقوا في حماية الحد الادنى من وجودهم السياسي على الخارطة الدولية واسلموا مقادير أمورهم للغرب الراعي لدولة العدوان والاغتصاب.
فها هي فلسطين «الاسم المقدس» في قاموس صراعهم التاريخي مع الصهيونية تنشرخ الى نصفين متناحرين على الشرعية الفلسطينية التي لها حق تمثيل الشعب الفلسطيني الذي لا يزال اكثر من نصفه في الداخل رازحاً تحت الاحتلال والباقي تحت حصار خانق ينذر بكارثة انسانيةغير مسبوقة في التاريخ الحديث. وها هو لبنان بلا رأس منذ نحو اربعة اشهر ويصير حلّ ملفه الرئاسي اعتى معضلة عربية تواجهها القمة المقبلة.
انها لمفارقة تثير الاسى والحزن. اسرائيل تحتفل بالذكرى الستين لتأسيسها ويندفع قادة الغرب الى الحج في ديارها وطلب شرف التحدث من على منابرها الديموقراطية، فيما العراق في مهب الضياع، ولبنان «ايقونة العرب» والنموذج الحضاري الذي قدموه الى العالم يحتضر على سرير الموت الطائفي والمذهبي ويغرق في ازماته المتوالدة بفضل رعونة الاشقاء وانانيتهم وضيق آفاقهم وصدورهم بهذه التجربة الحضارية المشرقة التي ظلت تصفع العنصرية الاسرائيلية منذ نشوء دولتها، حتى انتهت ورقة مساومة تحت طاولات الصفقات الاقليمية والدولية.
في الغد القريب يطل الزعيم الاكبر جورج بوش من على منبر الذكرى الستين لقيام اسرائيل وقد سبقه الخليفة المحتمل جون ماكين برفقة احد اشد المغرمين بحب الدولة اليهوية السناتور جوزيف ليبرمان الطامح الى منصب بارز في الإدارة الجمهورية في حال فوز ماكين، الى حائط المبكى لنيل البركة الانتخابية ليهود اميركا في الانتخابات القادمة.
صار لزاماً على العرب ادراج بند واحد على جدول اعمال قمتهم المقبلة يتلخص بسؤال مثلث الأضلاع: من نحن؟ ماذا نريد؟ وماذا يريد العالم منا؟ ربما كان هذا السؤال اجدى من الجدل العقيم حول «قضاياهم المشتركة» التي اغرقتهم في دهر خلافاتهم ولمّا ينهضوا بعد.
علام اتفق العرب في تاريخهم اصلاً؟
Leave a Reply