بنين إحدى دول غرب أفريقيا، صغيرة بحجمها ومساحتها. تُطل على الشاطئ الشرقي للأطلسي. أما الجهات الثلاث الباقية فهي متداخلة بأراضي وحدود عدد من الدول الأفريقية ومتصلة بها إتصالا وثيقاً، بدءا من المواصلات البرية والطرقات الدولية التي ترتبط بجيرانها إرتباطاً حيوياً وهاماً، فضلا عن خطوط السكك الحديدية الداخلية التي تؤدي خدمات جليلة للمواطنين، وفوق كل هذا المطار الدولي الذي يربط العاصمة كوتونو بعواصم العالم بدءا بأوروبا ودول الشرق الأوسط وآسيا.
هذه الدولة الصغيرة الفتية زرتها أكثر من مرة. قادماً إليها بالسيارة، من لاغوس عاصمة نيجيريا السابقة، وتستغرق الرحلة بين العاصمتين أقل من ساعة تجتازها السيارة فوق طريق دولية واسعة مسفلتة وتقوم على جانبيها بعض الإستراحات ومحطات البنزين، والعشرات من المحلات التي تبيع للمسافرين والزوار كل ما يحتاجونه من الهدايا وغيرها.
تحتضن بنين الدولة وعاصمتها كوتونو، جالية لبنانية قوية ناجحة وفاعلة في اكثر من حقل وخاصة حقل التجارة والمقاولات، الى جانب جاليات أخرى لكنها لا تتمتع بنفس الأهمية والإنتشار كما هو الحال بالنسبة للجالية اللبنانية.
جاليتنا قليلة لكنها كبيرة بأعمالها
صحيح أن جاليتنا فيها قليلة العدد لكنها تحظى بمستوى تجاري وإجتماعي ناجح ورفيع. فهي على ثقة وثيقة بالوطن الحبيب لبنان وبالأهل، ومتفاعلة دائماً مع أحداث الوطن، وكذلك مع أحداث العالم برمته، وعلى صلة متينة وقوية مع قادة النظام الحاكم فيها وأهله وفي طليعتهم الرئاسة والحكومة والشعب، والأحزاب وأن علاقات الود والصداقة والإحترام المتبادل بين الشعب في بنين من جهة وبين أبناء الجالية اللبنانية هي علاقات جيدة ومتينة وفي كثير من الأحيان تلتقي الجالية وقادتها مع شرائح الشعب وتتجلى، في كل المناسبات الوطنية العامة والأعياد.
الكوارث تلاحق المغتربين
ومنذ اعوام قليلة مضت تعرّضت الجالية اللبنانية إلى كارثة جوية حلّت بها، بل هي من كبريات الكوارث التي قليلا ما تقع في دول غرب أفريقيا. كارثة خلّفت بعد حدوثها الكثير من المآسي والأحزان، وكان لهذه المصيبة المفجعة، آثارها الدامية والبليغة لا في أوساط الجالية اللبنانية في بنين وحسب، وإنما لفّت بوشاحها الأسود القاتم الحزين أبناء لبنان في الوطن وفي كافة أنحاء المهاجر.
مصيبة كبرى وأخطاء أكبر
لقد عنيت بتلك المصيبة، سقوط الطائرة التعيسة وهي لم تزل فوق أرض المطار وفوق مياه الشاطئ الذي كان هادئاً للحظات قبل السقوط المريع، حتى إذا سقطت هذه تحول شاطئ البحر هذا إلى شاطئ اللعنات والكوارث الدامية، بل شاطئ الدماء والدموع.
لقد سقطت الطائرة في البحر وعلى متنها أكثر من مئتين وخمسين راكباً، وقد تكدست في بطنها العديد من الأطنان الزائدة والمخالفة وغير المسموح بنقلها وشحنها على متن هذه الطائرة المنكوبة.
وقد قيل الكثير يومئذ عن اسباب سقوط الطائرة التعيسة فمنهم من قال أنه كان هناك زيادة في الوزن تعدت الأطنان العشرة، وهناك من يقول أن عدد الركاب زاد عن العدد المسموح بنقله، وقيل أن الطائرة لم يكن مرخصاً لها الإقلاع من مطار بيروت إلى أفريقيا قبل أن تتأكد المراجع المختصة من سلامتها وقدرتها على نقل الركاب من وإلى بيروت، وكذلك بالنسبة للشحن.
هرب الطيار وأصحاب الطائرة
ومن أهم ما قيل أيضا أن اصحاب الطائرة، وإثر وقوع المصيبة، اختفى الطيار الذي كان يقودها من المستشفى، كما اختفى أصحاب الطائرة وبقدرة قادر وغادروا ربوع الوطن الحبيب لبنان بلد العجائب والغرائب وبدأ البحث عنهم جميعاً، إلا أن التحقيق لا يزال جارياً، والبحث عنهم لا يزال قائماً – نعم – وليس نائماً – على قدم وساق.
البكاء والدموع لن تعيد فقيداً
غير أنني لم أتمالك نفسي ولم أستطع أن أكبت عواطفي وتأثري حين رأيت النائب السابق الأستاذ حسن علوية يبكي نجله الشاب الذي قُتل بحادث سقوط الطائرة مع العديد ممن قتلوا وماتوا معه. رأيته يبكي نجله الشاب بكاء مراً، فلم أتمالك نفسي لحظتئذ من أن أشاركه وذوو الضحايا ذرف الدموع الساخنة حزناً وأسى على جميع الشهداء الذين كانوا في طريقهم إلى لبنان، لكنهم ذهبوا ضحية الطمع والجشع، والإستهتار بأرواح الناس لقد ذهبوا إلى بارئهم، ألا رحمة الله عليهم جميعاً رحمة واسعة.
بنين هذه، ذات الأراضي المخضرة دائماً، وصلتها كما قلت من اللاغوس وكان ذلك قبل سقوط الطائرة بأيام، وعلى الفور توجهت بالسيارة إلى فندق ينسجم كلياً مع ما تحتويه وتتضمنه الميزانية الحنونة. وكنت قد نزلت فيه في الزيارات السابقة. خرجت من الفندق بعدها متوجهاً إلى مكاتب شركة الصديق التاجر العريق رئيس الجالية اللبنانية يومذاك غازي قديح، وهو مغترب مخضرم، أينما حلّ سواء في ديار المهجر أم في الوطن الحبيب، هو دائماً موضع التكريم والترحيب.
لقاء مع المغتربين
كان لي لقاء أخوياً مع غازي قديح، لم يخلو من عتب وعتاب، فهو إبن النبطية البار وأهلها من خيرة أطايب الناس وألطفهم لذا رأيت ان الوقت قد طار سراعاً، وبات علينا أن نتحرك، وقد بلغت الساعة التاسعة مساء تقريباً.
وفي منزل المغترب المكافح، تناولنا طعام العشاء، الذي كان قد هيأه لنا الطباخ الأفريقي المشهور بصنع كل أكل أفريقي حار وحامي إذ يضع فيه كل أنواع البهارات الحارقة، وخاصة إذا كان الأكل مشويات ومقليات ومحمرات، فضلا عن كل ما لذ وطاب.
الحنين الدائم إلى الوطن
لقد أمضيت في كوتونو أكثر من أسبوعين زرت خلالها الكثير من المغتربين اللبنانيين المقيمين في العاصمة كوتونو، وتعرفت إليهم، ثم التقيت بمعظمهم فيما بعد، ولقد لمست أن تعلّق هؤلاء الذين هاجروا من الوطن الحبيب ولم يهجروه، تعلقاً متينا لا يمكن الفكاك منه أبدا، لأن الأمر أمر إنتماء المرء إلى أصوله، وإلى جذوره والفروع. وإلى ثقافة وطنية شريفة زُرعت في أعماق النفوس، ثم نمت وكبرت وترعرت، وبأن هذا الإنتماء هو الغاية والمبتغى، وهو الأمل وهو الهدف المقدس الذي لا يمكن أن ينازعه في قداسته أي أمرٍ آخر.
كان من الطبيعي أن أبدأ بزيارة الأخوة أبناء لبنان الذين جعلوا من كوتونو مقراً ومستقراً، وتستمر هذه الزيارات حتى إذا بلغت الساعة الواحدة تقريباً أكون قد أنهيت أكثر من زيارة لأكثر من أخ لبناني يعيش لبنان في قلبه ووجدانه وضميره حياً لا يموت، مغترب هاجر من ربوع الوطن إلى أفريقيا ومجاهلها وقراها ودساكرها ولا أقول غاباتها كي يضمن اللقمة الشريفة والعيش الكريم له ولعائلته.
وأثناء تجوالي في العاصمة كوتونو، وبعد أن التقيت بأكثر من أخ لبناني مهاجر، وخلال محادثاتي مع العديد منهم في أوقات مختلفة، سمعت من معظمهم كلاماً فيه رنة حزن وأسى وعتب على الدولة والحكومة عتبا كبيراً.
الحزن على ما آلت إليه الأوضاع من تردٍ كبيرٍ في البلد الحبيب لبنان، وكيف أنه بات بلدا تتقاذفه الرياح العاتية يمنة ويسرة، وكيف أن أهل الحل والربط والذين يمسكون بأيديهم مقدرات البلاد باتوا دمى متحركة تحركهم أصابع وأيدي دأبت ومنذ زمن بعيد على الإستهتار بمقدرات البلاد والعباد ومصيرهم ولم يعد لهم من هم سوى زرع كل أنواع المصائد والأفخاخ باذلين كل ما لديهم من «عبقريات» من أجل إيصال البلاد إلى شفا جرُفٍ هارٍ وصولا إلى الهاوية الكبرى، بعد أن أمعنوا ومنذ زمن بعيد في نهب المال العام والمتاجرة بكل ما من شأنه أن يعود عليهم هم فقط، بالثروة والجاه والسلطان، أما الشعب الذي يستمر في إطلاق الصرخة تلو الأخرى، فهم آخر من يمكن لهم أن يسمعوا صرخات المواطن وأناته وإستغاثته الموجعة كي ينقذوه مما يعانيه من فقر وبطالة وجوع وقلة سيولة لا يراها إلا في أيدي هؤلاء الذين نُكب بهم الوطن منذ أن بات وطنا كسيحاً مسحوقاً ومسلوب الإرادة وأن حكى فالسجن أقرب إليه من حبل الوريد.
مقابلة رئيس الجمهورية فـي بنين
قال لي صديقي غازي قديح قبل أن نتوجه لتناول طعام الغداء: ما رأيك بزيارة رئيس جمهورية بنين؟
قلت: إنها فكرة جيدة، لكنني حاولت أن أستأذنه دقائق لإرتداء ما هو مناسباً لمقابلة أي رئيس.
قال: لا، لا داعي، نحن هنا في أفريقيا.
قلت: حاضر.
فـي طريقنا إلى «القصر الجمهوري»
تحركت بنا السيارة من مكتب المغترب غازي قديح وهو شيخ المغتربين في كوتونو، باتجاه القصر الجمهوري. لم تسلك بنا السيارة طرقات رئيسية كالـ «هاي واي» أو أوتوستراداً يؤدي بنا إلى مداخل القصر الجمهورية الذي – ولا شك- تحيط به الحدائق العامة والأشجار الباسقة والأضواء اللماعة، بل سلكت بنا السيارة طرقات ثانية، هنا لم أشأ أن أذكر الصديق غازي قديح عما إذا كنا تهنا أو أضعنا الطريق، قلت لنفسي لا تُذكره، فهو يعرف جميع الطرقات التي تؤدي إلى القصر الجمهوري.
المفاجأة
بعد دقائق واجهتنا أسلاكاً شائكة! ثم مجموعات عسكرية توزعت هنا وهناك، ثم بدى لنا سوراً وتصوينة تشبه الجدار الإسرائيلي العازل الذي تقيمه إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ثم وصلنا إلى بوابة عريضة يحرسها أكثر من جندي مسلح طبعاً، كما بدا لي مبنى لا هو بالبناية السكنية ولا هو بعمارة ذات طوابق وشرفات، كلا، بل كان هذا البناء أقرب الاشياء إلى معسكرٍ أو إلى ثكنةٍ عسكرية تعج بالعسكريين.
هذه الصورة التي طالعتني وفوجئت بها، مسحت من ذهني مباشرة صورة القصر الجمهوري وما يحيط به من فخامة وعظمة وجاه. وأخيراً، وصلنا إلى حرم هذا المبنى الذي كنت أظنه قصر الرئاسة، وتأكد لي أنه ليس بقصر للجمهورية بل هو السجن المركزي للعاصمة كوتونو، ولدولة بنين بكاملها.
لقد جئنا لزيارة الرئيس في القصر الرئاسي، فإذا بي أجد نفسي وصديقي غازي في صالون السجن المركزي الكبير. لقد منيتُ نفسي قبل الوصول إلى هذا المكان بأنني سألتقي برئيسٍ للجمهورية، وأننا سنتناول معه طعام الغداء – بدعوة من رئيس الجمهورية – وسوف تُلتقط لنا (شوية) صور مع فخامته وربما مع رئيس وزرائه أيضا وقد يكون حاضرا وزير الإعلام والخارجية والدفاع وغيرهم.
بعد كل هذه التخيلات التي تبخرت في الفضاء صحوت على صديقي غازي وهو يقول لي شو رأيك قلت له: إنه أفخم قصور الرئاسة على الإطلاق!
ترجلنا من السيارة، ودخلنا المبنى الذي لا علاقة له البتة بالقصر الجمهوري ولا يرتبط بأدنى علاقة مع الحدائق الغناء ومظاهر الفخامة والعظمة والبهاء إنما هو يا صديقي، السجن المركزي.
فـي السجن المركزي
في حقيقة الأمر لا زلت حتى تلك اللحظة غير مصدق لما حدث، كنت في طريقي لزيارة رئيس الجمهورية في قصره، وإذا بي أجد نفسي في صالون السجن المركزي الكبير وحولنا الأسلاك الشائكة والوجوه العابسة، وتجمهرات عسكرية هنا وهناك، ومئات من المساجين يئنون قهراً وألما وهو وراء القضبان الحديدية الغليظة. يبحلقون جيداً في وجوه السجانين الغلاظ، وفي وجوهنا أيضا. وفي مكتب مدير (القصر الجمهوري) عفوا مكتب مدير السجن المركزي قال صديقي للمدير: نريد مقابلة فخامة الرئيس (هيوبرت ماغا).
لقائنا مع «رئيس الجمهورية»
هنا هبّ الكومندان واقفاً ومرحباً بنا ولم تمض دقائق حتى كان «فخامة الرئيس هيوبرت ماغا، يحضر وخلفه يسير ثلاثة جنود من الحرس الخاص حماية له وتم اللقاء بيننا، وكان كلاماً وتعارفاً وحديثا بيني وبينه ثم دعانا للجلوس، وتابع صديقي غازي قديح الحديث مع الرئيس السجين!
ما هي أسباب خلعه من منصب الرئاسة وما هي أسباب إقالته من المنصب وما هي أسباب إعتقاله، وماذا قال رئيس جمهورية بنين لكاتب هذه الحلقة التي قام بزيارته في سجنه العزيز وما هي التهم التي وجهت إليه يا ترى؟ كل ذلك سنقرأه في حلقة قادمة بإذن
Leave a Reply