الفلسطينيون وأهل غزة على وجه الخصوص يحبون مصر حبا جما، يكفي أن جيشها لم يرفع يوما السلاح في وجه الفلسطينيين، كما فعل الأردنيون والسوريون واللبنانيون، ثم إن مصر خاضت ثلاثة حروب ضد إسرائيل كان من أبرز أهدافها تحرير فلسطين، وهي الشقيقة الكبرى للعرب، حين تدّلهم الأحداث على أحدهم يسارعون للإستنجاد بها، لما تمثله من قوة إستراتيجية وكون صوتها مسموعا في المحافل الإقليمية والدولية، أعجبني كثيرا موقفا اتخذته الإمارات العربية مؤخرا باستعدادها لتمويل إستصلاح ستة ملايين فدان في السودان لزراعتها بالقمح، تكفي لسد حاجة مصر من هذه المادة الغذائية الأساسية، التي شحت في أسواقها وكادت تفضي إلى إهتزازات خطيرة على الأمن في الشارع المصري.لكن مصر هذه التي نعرفها وارتبط إسمها بالزعيم الراحل جمال عبد الناصر، الذي أمّم قناة السويس وبنى السد العالي، وشيّد آلاف المصانع، وحرّر الفلاحين من ربقة الإستعباد الإقطاعي، وناصر الفقراء، وارتقت في زمنه الفنون والآداب، ونادى بوحدة الأمة العربية، ودعم حركات التحرر العربي، يقف على رأسها الآن نظام ارتضى لنفسه الركون إلى زاوية مظلمة، يحسب أنها تقيه شر الحروب ومعترك الصراعات، وكأنه نأى بالشعب المصري عن إحتمال تعريضه لخسائر بشرية وإقتصادية، ليلتفت إلى بناء دولة حديثة ومزدهرة، يسودها الأمن والإستقرار، بعيدا عن بؤر التوتر والحرائق المشتعلة على حدوده وفي كامل الإقليم.
نظرية سياسية أقل ما توصف به أنها ساذجة، في ظل عولمة أضحت الكرة الأرضية بموجبها قرية صغيرة، من كان يظن أن نظام صدام حسين سيسقط وتقع العراق تحت الإحتلال لمجرد هجمة نفذها حفنة من الإرهابيين على نيويورك وواشنطن، ومن كان يدرك أن نهضة الصين والهند ستشعل أسعار النفط وتهدّد دولا فقيرة في أمنها المعيشي مثل مصر التي شحّ فيها حتى رغيف الخبز.هذا في حال الصين والهند، فما بالك في غزة المحاذية لمصر والتي كانت يوما جزءاً منها وتحت سيطرتها، كيف لحريق في هذه المدينة لا تمتد شراراته إلى القاهرة والإسكندرية بل وصعيد مصر، أيعقل أن يموت أهل هذه المدينة جوعا وحصارا مفروضا عليهم منذ تسعة أشهر، ومصر غارقة في تشبثها بإتفاقات دولية ومعاهدات سلام وفرضيات أمن قومي، أليس الأجدى بها الإلتفات إلى قيم أرقى وأكثر عدلا ورحمة من مجرد بنود في إتفاقات ونصوص قوانين؟يقول المصريون أن بلادهم بين نارين: أما غض الطرف عن إختراق الفلسطينيين لحدودهم بالقوة للحصول على ما يلزمهم من غذاء ودواء ووقود، وأما مجابهتهم بالرصاص، وهما أمران أحلاهما مرّ، بيد أن الفلسطينيين يصطلون على نار حامية، فهم بالإضافة إلى الحصار يتعرضون لمؤامرات إقليمية ودولية هدفها الإطاحة بمقاومتهم، كما أن الجيش الإسرائيلي يتهيأ بين لحظة وأخرى للإنقضاض عليهم في هجوم برّي واسع النطاق، يعاد فيه إحتلال غزة وتركيعها، وهذا ما دعى قيادة المقاومة إلى إتحاذ قرارها مؤخرا باحداث إنفجار كبير حدد مكانه بين الرفحين المصرية والفلسطينية، وأضحى وقته قريبا جدا، فيما حددت آلياته بحشد عشرات الآلاف من الفلسطينيين على الحدود وخرقها وكسر الحصار، فإذا ما أطلق الجنود المصريون النار على المدنيين، فسيتصدى لهم رجال المقاومة وتدور إشتباكات تسيل فيها دماء المصريين والفلسطينيين، وحينها تضطر القاهرة ورام الله وعواصم القرار الإقليمية والدولية إلى إعادة خلط أوراق لعبتهم، والتي لغاية الآن لم يكن فيها أحد خاسرا سوى غزة والمقاومة.إنفجار كهذا من شأنه تحقيق غايات سياسية لحركة المقاومة في فلسطين، لم تستطع تحقيقها عبر المفاوضات والصمود في وجه الحصار، لعل أبرزها إعادة صيغة وفاق مع السلطة الفلسطينية، وفك الحصار وإبرام هدنة مع الكيان الصهيوني، توقف بموجبها تل أبيب هجماتها على قطاع غزة وملاحقتها لقيادات وكوادر المقاومة. يبدو أن أهدافا كهذه لن ترى النور إلا إذا غرقت الحدود المصرية الفلسطينية بالدخان والنار.
Leave a Reply