خبر طازج تناقلته وكالات الانباء والمحطات الفضائية مؤخراً عن نية الفلسطينيين انتاج مسلسل تلفزيوني من 30 حلقة، بكلفة تصل الى اربعة ملايين دولار، تدور احداثه حول حياة الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، منذ كان صبياً ولد في قطاع غزة، وتربى في منزل خاله في القدس، وانتقل ليدرس الهندسة في القاهرة، ليعمل بعدها في الكويت ويؤسس مع مجموعة من الزفاق حركة التحرير الوطني الفلسطيني «فتح» لتشكل العمود الفقري في منظمة التحرير الفلسطينية التي ما لبث ان اصبح رئيسها.
وينتظر للمسلسل الذي سوف تنتجه مؤسسة «معن» ومقرها مدينة رام الله، ويخرجه الفنان الاردني فيصل الزعبي، ان يلقي اقبالاً جماهيرياً واسعاً في العالم العربي، نظراً لما تمثله القضية الفلسطينية من زخم في نبض الشارع العربي ولما يمثله عرفات من جدلية سياسية حول شخصيته وما مرّ به الفلسطينيون في عهده من انجازات واخفاقات، فالرجل وان تعددت حوله الرؤى وتشابكت الآراء، فلأنها القضية التي كان يقودها متشابكة ومعقدة اعجزت حتى دولاً كبرى عن حلها.
الاميركيون اعتبروه ردحاً من الزمن ارهابياً، ثم ما لبثوا ان استقبلوه ضيفاً عزيزاِ في البيت الابيض، بل واسهموا في منحه جائزة نوبل للسلام، والاسرائيليون قاتلوه دهراً، وحين دخل الضفة الغربية بطائرته الخاصة قادماً من عمان، رافقته اربع طائرات من سلاح الجو الاسرائيلي لحمايته، اما الانظمة العربية فقد كان لعرفات معها قصصاً شائكة ومعقدة جداً، لا اظن المسلسل التلفزيوني الذي هو بطله سيغفل عنها، فهو في فترة مبكرة عقب نكسة 1967 سيطرت قواته على طول نهر الاردن في مواجهة الجيش الاسرائيلي، وكادت تسقط بيده العاصمة الاردنية لولا ان تدارك الملك حسين خطر الفدائيين على نظامه، فشن عليهم حرباً دفعتهم للتمركز في الجنوب اللبناني، الذي اضحى جزء منه يعرف فيما بعد بـ«فتح لاند» وكان ذلك مقدمة لحرب اهلية دامت خمسة عشر عاماً تخللها هجوم اسرائيلي وصل الى مشارف بيروت، افضى الى اقصاء منظمة التحرير عن لبنان ونفي مقاتليها الى سبع دول عربية، وحينها استقر عرفات في تونس بعيداً آلاف الاميال عن فلسطين، التي عاد اليها بعد سنوات من المفاوضات ليقضي آخر ايامه في رام الله ويدفن فيها بانتظار تنفيذ وصيته بنقل رفاته الى القدس بعد تحريرها.
سيرة عرفات لا يمكن لاحد ان يلم بتفاصيلها، فهو زعيم اسطورة حار المفكرون والكتاب والادباء في تحليل شخصيته وسبر اغوارها، فجاءت الكتب المؤلفة عنه في انحاء العالم مختلفة ومتباينة الى حد كبير، لكن ما رشح منها واتفق عليه الاصدقاء والاعداء انه كان زاهداً في اسلوب حياته، فلم يعرف عنه عشقه للاقامة في قصور، ولا تردده على نواد ترفيهية، ولا شغفه بالنساء، ولا تنقله بسيارات فارهة، وجل ما كان ينفقه على نفسه ثمن بزة عسكرية وكوفية وقليل من بسيط الطعام والشراب، فهو اذن لم يكن فاسداً كغيره من معظم القيادات في الانظمة العربية، لكن البعض اعتبره «مفسداً» افسد بطانته من حوله باغداقه عليهم الاموال، وربما كان هدفه استمالتهم الى جانبه واطاعة برنامجه السياسي والوطني. والحق ان جميع من عاصروه شهدوا له بشجاعة فائقة، فهو لم يكن يحسب للموت حساباً، تجلى ذلك في هجوم شنه الجيش الاسرائيلي على مقره في رام الله، حيث دمروا المقاطعة على رأسه ومن معه من المقاتلين الذين اشتبكوا مع جنود الاحتلال بالرصاص، وكانوا مستعدين للقتال بالسلاح الابيض دفاعاً عن قائدهم ورمز الشعب الفلسطيني.
ثم ان عرفات كان سياسياً محنكاً استطاع توحيد الفصائل الفلسطينية المتعددة العقائد والتوجهات تحت جناحية على مدى اربعين عاماً، وما ان رحل حتى تشتت الفلسطينيون وتقاتلوا، وهو تؤخذ عليه من كثيرين رفضه توقيع اتفاق سلام نهائي مع اسرائيل برعاية اميركية ابان عهد الرئيس كلينتون، وقد يكون وراء ذلك ثلاثة اسباب: الاول تجنب نشوب انشقاق فلسطيني تليه حرب اهليه، والثاني عدم التفريط بحقوق اللاجئين الذين قامت على اكتافهم الثورة، والثالث حتى لا يكتب التاريخ انه الزعيم الذي تخلى عن جزء كبير من فلسطين.
البعض وصل به التشكيك في مسيرة عرفات السلمية الى حد وصفه بـ«الخائن»، اثر توقيعه اتفاقيات اوسلو ودخوله الاراضي الفلسطينية، لكن هذا الوصف سرعان ما انمحى من الذاكرة الفلسطينية والعربية، حين اندلعت الانتفاضة الثانية وكان عرفات عرابها، حينها وصلت الاشتباكات بين المقاتلين الفلسطينيين والجنود الاسرائيليين الى مشارف القدس، وعندئذ شعر كل اسرائيلي بالصدمة التي سببها لهم رئيس وزرائهم الراحل رابين، فهؤلاء المقاتلون يخوضون معارك على ابواب المدينة المقدسة، بعد ان كانوا بعيدين آلاف الاميال ومشتتين في عدة دول عربية.
عرفات كان نجماً عالمياً ملأ الارض ضجيجاً في حياته وعند مماته، فهل يكون المسلسل التلفزيوني العتيد متواكباً في انتاجه واخراجه وتمثيله بمثل ما وصل اليه عرفات من شموخ؟
Leave a Reply