فـي ظل «حوار الطرشان» السائد
ماذا يمكن ان نسمي الاتصالات والمشاورات والمفاوضات التي شهدتها الحركة السياسية اللبنانية منذ ان اطلق رئيس المجلس النيابي اللبناني نبيه بري احدث مبادراته لتجديد طاولة الحوار الوطني؟
ببساطة ان ما سمعناه ونسمعه منذ عودة الرئيس بري من زيارته الدمشقية الاخيرة، من احادييث عن ضرورة الحوار الوطني بين اللبنانيين والتي اجمع عليها كل الافرقاء، لكن مع ربطها بالشروط ورسم النتائج المتوخاة منها لدى كل فريق لا يعدو كونه «حوار طرشان» على طريق الحوار المرتجى ان يخرج بصيغة حل توفيقي بين الرؤى والافكار التي تتلاطم يومياً على شاشات التلفزة امام اعين وتحت اسماع المشاهدين اللبنانيين.
لذا يعيش اللبنانيون حالة من الضياع والقلق وتشوش الرؤية منذ بداية ازمتهم الرئاسية واخفاق قادة الطوائف في الخروج من الدوامة التي ادخل فيها لبنان بتواطئهم او قلة حيلهم ازاء التدخلات الخارجية، العربية منها، والاقليمية والدولية.
ومع وصول الازمة الرئاسية وهي العنوان الظاهري للأزمة الكيانية التي يعيشها لبنان للمرة الاولى في تاريخه الحديث، الى افق مسدود رغم كل ما يُحكى عن «الرئيس التوافقي» الذي نال تأييد طرفي الصراع السياسي وهو قائد الجيش العماد ميشال سليمان، إلا ان حقيقة الازمة ثبت انها ابعد واعمق من هذا «التوافق» الذي لا يحمل من المعنى سوى الاسم.
فعندما يكون وصول المرشح التوافقي الى قصر بعبدا مشروطاً بسلة تفاهم تشمل الحكومة وقانون الانتخاب والتعيينات في المراكز الامنية والعسكرية الحساسة، لدى المعارضة، وعندما تشترط الموالاة ان يتم الانتخاب بمعزل عن كل تلك الشروط، فعن اي «توافق» يتحدث المتحدثون؟ لقد استنفدت «الازمة الرئاسية» عدة مبادرات دولية وعربية ومحلية وبقيت «صامدة» في وجه اي نوع من انواع الحلول. فمن المبادرة اللبنانية التي اطلقها رئيس المجلس النيابي في صيف العام الماضي لانتخاب رئيس توافقي بمعزل عن اي شروط وشروط مضادة، الى المبادرة الفرنسية التي استهلكت طاقة انشط الدبلوماسيين الفرنسيين واكثرهم «جرأة» على تسمية الامور بأسمائها، وزير الخارجية برنار كوشينر، الى المبادرة العربية التي حوصرت بأكثر من عائق، محلي واقليمي ودولي، قبل ان يتم ايهام اللبنانيين ان العرب قد حزموا امرهم وتوافقوا على «صيغة حل»، ليتبين ان كل ما قيل وبث من تفاؤل لم يكن سوى ذرٍ لرماد الخلافات العربية المستعصية في العيون اللبنانية القلقة. حتى ان تلك المبادرة دخلت في نفق «الغموض اللغوي» رغم ان بنودها مكتوبة بلغة عربية فصيحة، مما اضطر امين عام الجامعة للعودة الى مجلس وزراء الخارجية العرب من اجل «التوضيح». لكن النتيجة أتت بمزيد من الغموض الذي جاء «بنّاءً» هذه المرة ورمى كرة المشكلة اللغوية والبنيوية في احضان اللبنانيين تاركاً لهم امر تفسيرها، وهم المختلفون على العناوين الكبرى لأزمتهم، فكيف بالتفاصيل التي تسكن فيها آلاف الشياطين؟
سادت إبان الاشهر الاخيرة من الأزمة مقولة اختصرها رئيس المجلس النيابي نبيه بري بعبارة «سين – سين» اشارة الى الطرفين السوري والسعودي في معادلة الحلول المطروحة. واقنع الرئيس بري نفسه اولاً بأنه ما لم يشهد خط «سين – سين» حرارة في الاتصال فمن العبث محاولة فتح اي خطوط داخلية. لكن سرعان ما فقدت هذه المقولة الكثير من الزخم، خصوصاً بعد إرفضاض مؤتمر القمة العربية في دمشق الذي قاطعته القيادتان السعودية والمصرية، وما أعقب القمة من تداعيات سلبية اضافية على خط العلاقات السورية السعودية حيث بدا ان «خط سين-سين» قد فقد آخر ذرات الحرارة في اسلاكه الباردة منذ افتراق القيادتين على خلفية اغتيال الرئيس رفيق الحريري واتهام المملكة للنظام في دمشق بالمسؤولية، المعنوية على الاقل «عن هذا الاغتيال، ومنذ ان ادت حرب تموز عام 2006 الى تكريس الشقاق بين الدولتين على وقع الحملات الاعلامية المتبادلة. وعلى هذا فقد عاد الرئيس بري الى اعتناق مبدأ «لام-لام» (لبناني-لبناني) يأساً من إمكانية سلوك الحل سكة «سين-سين».
لكن «المشهد الحواري» الحالي الذي يتخذ من وسائل الاعلام سبيلاً لتوصيل الشروط والشروط المضادة هو مشهد خادع في اقل توصيف له.
فالقيادات الطائفية المعنية بهذا الحوار تمارس لعبة تقطيع الوقت بانتظار جلاء الموقف الاقليمي والدولي عن صورة اوضح لما ينتظر المنطقة ولبنان من تطورات. هذه الحقيقة بات من السخف ان تفوت اي لبناني نبيه يقرأ صحيفة او يتابع نشرة اخبار. فالوضع اللبناني بات معلقاً برمته على خشبة الصراع الاقليمي الدولي. وهذا الصراع بدأت تصدر عن القيمين عليه اشارات متناقضة لا تفعل سوى ان تزيد من غموض وتعقيدات الأزمات المرتبطة به.
ففي الوقت الذي يدعو الرئيس نبيه بري الى استعادة الحوار الداخلي بصورته المكررة وبنوده اياها المختلف على مقاربتها بصورة جذرية، تخرج الى «العلن» مسألة الوساطة التركية بين اسرائيل وسوريا، ويعلن الرئيس السوري بكل جرأة ان ثمة وساطات «اثمرت» تعهداً اسرائيلياً بالتخلي عن مرتفعات الجولان السورية المحتلة، لكنه لا يرى امكانية للوصول الى نتائج نهائية وحاسمة دون حضور الوسيط الاميركي، الذي لا يرى الرئيس السوري ان لديه الارادة والنية في ظل الادارة الجمهورية الحالية ويعوّل على الادارة لاقادمة ان تقوم بهذه المهمة (بعد الانتخابات الاميركية). لكن في اليوم ذاته الذي كشف فيه الرئيس بشار الاسد عن الوساطة التركية وما توصلت اليه، اختارت الادارة الاميركية «الكشف» عن تفاصيل «الغارة الغامضة» التي استهدفت منشأة دير الزور في الشمال السوري وعن قيام اسرائيل بتنفيذها بعدما عرضت على الجانب الاميركي ما لديها من «صور» ومعلومات استخبارية عن تلك المنشأة.
اكثر من ذلك بدت الادارة الاميركية منشغلة بتأسيس ملف نووي سوري، على غرار الملف النووي الايراني، ذاهبة بالدور الاميركي المتوخى في رعاية حل على المسار التفاوضي السوري الاسرائيلي كما تأمل سوريا واسرائيل الى خانة المراهنة على سراب.
يرى بعض المحللين ان الادارة الاميركية ارادت التعبير عن انزعاجها من الاتصالات السرية الجارية بين حكومة اولمرت ودمشق باحراج الجانبين على السواء عبر كشفها لتفاصيل وظروف الغارة الجوية في الشمال السوري، مما يؤدي الى توتير اجواء الوساطة التركية وخفض سقف التوقعات من ورائها. وبالفعل لم تتأخر اسرائيل على لسان رئيس وزرائها اولمرت عن المباهاة امام الشعب الاسرائيلي بالقول «ان هنالك قيادة ساهرة على امنه وامن الدولة» في اشارة الى الغارة الجوية ضد منشأة دير الزور. ولم يتأخر أيضا نائب رئيس الوزراء الاسرائيلي شاؤول موفاز وهو احد اعضاء حزب كاديما عن القول ان التخلي عن مرتفعات الجولان سيوفر لايران موطئ قدم فيها مما يؤدي الى رفع نسبة التهديد لامن اسرائيل. كذلك لم يتخلف وزير الدفاع الاسرائيلي ايهود باراك عن الادلاء بدلوه عن تصميم اسرائيل على الاحتفاظ بمرتفعات الجولان «التي تعتبر جزءاً من ارض اسرائيل» وهو يشرف على احدث المناورات العسكرية فوقها لمحاكاة الحرب القادمة في الشمال الاسرائيلي والجنوب اللبناني باعتبار الهضبة المحتلة تماثل في تضاريسها وظروف القتال فيها، التضاريس والظروف القائمة على جبهة الجنوب اللبناني والشمال الاسرائيلي. وبالطبع لم ينس باراك ان يشير الى ان عين الدولة تبقى على غزة وما تمثله من تهديد لامن سكان الجنوب الاسرائيلي.
المشهد الاقليمي، يبدو هكذا مماثلاً للمشهد الحواري اللبناني من حيث عملية تقطيع الوقت التي يشترك فيها كل الاطراف بانتظار ساعة الصفر للحرب المقبلة، التي وان لم تتضح حدودها والامداء التي قد تشملها الا انها تبدو واقعة والجميع قد استكملوا استعداداتهم لخوضها وان رسائل «الطمأنة» والاحاديث عن نوايا السلام في ظل العمليات الامنية والعسكرية الكبرى من نوع غارة دير الزور واغتيال القائد العسكري لحزب الله عماد مغنية، هي من نوع اطلاق القنابل الدخانية للتعمية على النوايا الحقيقية لدى الطرفين الاسرائيلي والاميركي فاسرائيل تعيش على مدار الساعة هاجس «ايران النووية» والادارة الاميركية قطعت شوطاً بعيداً في تهيئة «ملف سوري» قابل للمحاسبة بعدما يئست من اقدام نظام دمشق على «تغيير سلوكه» في العراق وفلسطين ولبنان.
وما يعزز احتمالات الحرب ويجعلها طاغية على ما عداها هو ما يجمع عليه الباحثون السياسيون ومفاده ان الحروب تمهد لها في العادة ازمات اقتصادية خانقة من نوع ازمة ارتفاع اسعار النفط والغذاء التي تجتاح العالم بأكمله هذه الآونة والتي لا افق هناك لنهايتها في المدى المنظور.
اما اللبنانيون فبامكانهم مواصلة التسلية بأحاديث الحوار «وطبخة الحصى» الموعودين بنضوجها، على امل ان لا تقضي شظايا الانفجار القادم في المنطقة على ما تبقى من حظوظ بقاء بلدهم على وجه الخارطة الشرق اوسطية بالصورة التي عرفوها، وان لا يضيع «المشهد اللبناني» وسط دخان المشهد الاقليمي الاكبر الذي قد يندلع حريقه في اية لحظة.
Leave a Reply