كان ذرب اللسان وفصيح الكلام وصاحب أسلوب مرح، وممن يحترم كل صغير وكبير، لا فرق لديه إن كان حاكما أو مواطناً عادياً. كان يومئذ من أكبر شيوخ الخليج سناً ومقاماً، يتمتع رغم كبر سنه بحيوية ونشاط وهمة عالية جدا. في ذلك الوقت زرته في دارته أكثر من مرة، وفي مقر أقامته ومكان حكمه، حيث كان يحكم المشيخة عجمان يعاونه في تسيير أمور العباد والإستماع إلى شكاويهم، نجله الشيخ علي الذي عيّنه والده ولياً للعهد في المشيخة المذكورة. غير أن هذا التعيين الذي تمّ قد اعترض عليه يومئذ نجله الثاني الشيخ حميد إعتراضاً قاسياً، وكانت والدة حميد هي الأميرة والشيخة الموجودة في القصر بشكل دائم، بينما كانت والدة الشيخ علي الذي عين ولياً للعهد أميرة تقيم في قصر آخر، لذا رأينا أن خلافاً قام بين الأخوين غير الشقيقين، ثم قامت خصومه بينهما، أدت هذه إلى نشوء حالة مقاطعة وقد دامت هذه المقاطعة زمنا طويلا.
لقد كان إعتراض الشيخ حميّد وهو النجل الثاني للشيخ الحاكم، إعتراضاً صلباً تجلى فيه الإصرار كله كما تجلى فيه سعيه بشكل دائم، وبكل جهد لإجبار والده على إلغاء تعيين الشيخ علي أخاه ولياً للعهد.
قامت عدة مساعي ومحاولات للتوفيق بين الأخوين من قبل بعض أصدقاء الشيخين إلا أن تلك المحاولات لم تفلح، وفيما كنت أقوم بزيارة الشيخ علي في منزله طلب إليّ أن أقوم بمسعى مع شقيقه الشيخ حميد باعتباري صديقاً له، كما كان هو صديقاً لي أيضا سعياً وراء إتمام وإجراء مصالحة بينهما كي تعود الأمور إلى مجراها السابق، وكلفني الشيخ علي أن أدعو أخاه إلى حفلة غدا، تقام على شرفه، وقد قام هو قبلاً بدعوته شخصياً لحضور هذا التكريم في منزله.
لقد توجهت بالفعل لمقابلة الشيخ حميّد وقدمت له الدعوة، وشرحتُ له بإيجاز أية مشاعر نبيلة وكريمة تنطوي عليها نفس الشيخ علي حياله، لقد سرّني لحظتئذ قبوله الدعوة، فوعدني بالحضور. عدتُ إلى منزل الشيخ علي وأخبرته بموافقة شقيقه لتلبية دعوته.
وفي اليوم المتفق عليه كنت مع الشيخ علي في منزله مع بعض المدعويين ننتظر جميعا مجيء وحضور الشيخ حميد إلى منزل شقيقه الشيخ علي، إلا أن الوقت مضى ولم يحضر الشيخ حميد ولم يبعث بإشارة إعتذار لأنه كما يبدو لم يُعر دعوة أخيه ولا محاولتي أي إهتمام يُذكر.
فشل مهمة المصالحة
كنت متأكداً من أنه لن يحضر، لأن مساعي جرت سابقاً قام بها بعض الشيوخ من أصدقاء الطرفين كما قلت، فلم يُكتب لها أي نجاح يذكر، وأيقنت أن مهمتي من المؤكد أنها فشلت فشلا ذريعاً.
لذا رأينا أن الشيخ حميد استمر في معارضته ومقاطعته وإصراره على خلع أخيه من ولاية العهد حتى وصل في النهاية إلى النتيجة التي يصبو إليها وكان أن أذعن الوالد الجليل مضطراً لعزل ولده الشيخ علي من ولاية العهد وتعيين الشيخ حميد مكانه.
هذه المسألة لم تكن الوحيدة من نوعها. بل حدثت حادثة مثلها مشابهة لها تماماً في مشيخة رأس الخيمة. إذ قام الشيخ صقر بن محمد القاسمي حاكم رأس الخيمة بإقالة نجله الشيخ خالد من ولايه العهد وعين مكانه وبدلا منه شقيقه الشيخ سلطان بن صقر ولياً للعهد، بعدما كان سلطان يتولى جميع مسؤوليات المشيخة العسكرية والأمنية. وقديما قيل: فتش عند وقوع أي خلاف بين أفراد عائلة ما، وابحث عن السلطة والجاه والسلطان.
لقد تعرفت يومئذ إلى الشيخ خالد الذي كان وليا للعهد، وعرفت شقيقه الشيخ سلطان، وكانا في ذلك الزمن كل منهما في سن المراهقة وكانا يذهبان إلى إحدى مدارس مشيخة دبي، بعد أن تلقيا العلم في إحدى مدارس مشيخة رأس الخيمة وعلى أيدي أكثر من مدرس لمختلف أنواع العلم والمعرفة.
أكبر مشايخ الخليج سناً
كان الشيخ راشد النعيمي ولفترة طويلة أكبر مشايخ الخليج سناً، غير أن هذا لم يدم طويلا، حتى تبعه الشيخ هزاع أول حاكم لمشيخة أبو ظبي، ثم جاء من بعده شقيقه خالد، ثم جاء من بعده الشيخ شخبوط ثم الشيخ زايد بن سلطان، وهؤلاء المشايخ الأربعة هم أشقاء وأبناء الشيخ سلطان آل نهيان.
ثم يأتي بعد هؤلاء المشايخ الشيخ أحمد بن محمد الشرقي حاكم مشيخة الفجيرة، ثم جاء خلفه تماماً الشيخ أحمد بن محمد المُعلا، حاكم مشيخة أم القيوين ومن بعده جاء الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم حاكم مشيخة دبي، ثم جاء حاكم مشيخة رأس الخيمة الشيخ صقر بن محمد القاسمي، ثم الشيخ صقر بن سلطان القاسمي حاكم إمارة الشارقة الذي تم خلعه من منصب المشيخة بإنقلاب «عائلي مركب» ساعد على تحقيق هذا الإنقلاب وإنجاحه أحد نواب المجلس النيابي اللبناني الذي كان على صلة طيبة بالدوائر الإستخبارية البريطانية وقد التقيته شخصياً يومئذ، – يوم كان يُمهد لتنفيذ الإنقلاب – التقيته في مشيخة الشارقة حيث كان الحاكم الشاعر الشيخ صقر بن سلطان القاسمي وهو الحاكم حتى تم الإنقلاب «العائلي» البريطاني المشترك ضده.
لقد فوجئت شخصيا بوجود هذا النائب اللبناني وهو يعرفني جيدا وأعرفه جيداً أيضا. وأين؟ في مشيخة الشارقة حيث التقيته أكثر من مرة في ديوان
حاكمها الشاعر صقر بن سلطان القاسمي، وأجريت معه يومئذ حديثاً وطرحت عليه أكثر من سؤال، منها: ما هي أسباب زيارتك لمشيخات الخليج في وقت الصيف يا «بك»؟ تاركاً لبنان وهواؤه العليل ومصايفه وجباله وفواكهه اللذيذة، وقلت له: ولماذا أراك هنا وأنت تتصبب عرقاً منهمكا في وقت ترى فيه كل نواب المجلس النيابي في لبنان، في المصايف اللبنانية يتوزعون وفي سهرات الأنس والطرب يغوصون، وأنت يا «بك» هنا تستمر في مسح عرقك المتصبب نتيجة الحرّ الكاوي وفي مشيخة الشارقة تعرّض نفسك لأشعة الشمس اللاهبة دون شفقة منك! ولا رحمة!
بعد أن سمع كلامي أحسّ بأنني أستغرب كلامه ووجوده هنا في مشيخة الشارقة كل الإستغراب وفي هذا الجو المحرق بالذات. قابلني ساعتئذ بابتسامة صفراء وقال لي:
سأخبرك يا أخ علي، ما هي اسباب وجودي هنا في مشيخة الشارقة، قلت له: تفضل.
قال: الحاكم الشيخ صقر بن سلطان القاسمي الشاعر، هو صديقي الحميم، كما تعلم!
قلت: شيء عظيم.
قال: لقد منحني الحاكم رخصة تأسيس مصنع لتعليب الأسماك، وها أنذا ألاحق الموضوع من دائرة إلى دائرة.
أصبت بدهشة كبيرة حينما سمعت منه هذا الكلام، لكنني لم أقتنع بما قاله لي أبدا.
قلت له: تأسيس وإنشاء وبناء مصنع لتعليب الأسماك هنا، في الشارقة، وفي هذا الجو اللاهب؟
قال: نعم.
قلت له: إنها مزحة!
قال: لا.
قلت: إن كل أنواع السمك، حين تخرج من جوف البحر، فإنها تصاب بالعفن لشدة الحرّ.
وقلت: ولطالما الناس يستطيعون أكل السمك وهو طازه وللتو وعند خروجه من مياه البحر، فهل من المعقول أن يُفضل المواطن أكل السمك المعلب المتعفن، على أن يأكله طازة وقد خرج من مياه البحر لدقائق مضت؟
أنا لا أصدق ما تقوله، لأن أمراً من هذا النوع لا يصدقه إلا كل مغفل معتوه! أليس كذلك؟
هنا حان موعدي لحظتئذ مع الحاكم الشاعر الصديق، حيث كان في كثير من الأحيان يقرأ على مسامعي ما كان قد نظمه من قصائد وطنية وغزلية، إذ كنت مواظباً على زيارته، وعلى الإستماع إلى تلك القصائد التي كان ينظمها ليلا، كما كان لي صديقا حميماً، أحترمه وأقدر له فكره وعبقريته وعروبته ووطنيته وكثيرا ما كان يقطع علينا هذه الخلوة الشاعرية رئيس ديوانه الشيخ إبراهيم المدفع، شقيق رئيس دائرة الجوازات قاسم المدفع. رحم الله هؤلاء الأخوة الأصدقاء برحمته الواسعة.
ودارت الأيام دورتها، كنت لا أزال في منطقة الخليج أتجول من مشيخة إلى أخرى، فحكام المشيخات تربطني بهم علاقات طيبة وتواصلا صحافياً وإخبارياً متيناً، وكنت دائم الحضور وأزورهم في كل مناسبة عامة وما أكثرها، وكنت تراني أتتبع أخبارهم وأخبار أبناءهم الكبار الذين كانوا يومئذ أولياء للعهد وهم دون سن تولي مسؤوليات المشيخة وحكمها وبمرور الزمان، بات هؤلاء الأبناء حكاماً وقد غمرتهم أمواج الخير والبركة والبحبوحة بعد أن قامت دولة الإمارات العربية، وتحركت عجلة التطور والتقدم في كل إتجاه والحمد لله.
لقد سبق لي أن نشرت تفاصيل ما حدث لصاحبنا هذا النائب، وعلمت جيدا أي دور خبيث وبارع لعبه مع حاكم الشارقة الشاعر صقر بن سلطان القاسمي وأية مؤامرة اشترك فيها هذا العميل، وقلت بالتفصيل ما حدث للحاكم الشاعر، وأية مؤامرة دنيئة حيكت ضده، وكيف أنه وبقدرة الإستخبارات البريطانية وجهود عملائها تم إستدراج حاكم الشارقة الشاعر المؤمن العروبي بأكثر من حيلة ووسيلة وإخراجه من مكتبه الرسمي بلطف زائد بحجة إجراء مصالحة بين الحاكم الشاعر صقر بن سلطان القاسمي، من جهة وبين المعتمد البريطاني المقيم في دار الإعتماد في دبي، حيث يرفرق العلم البريطاني المربوط بسارية عالية جداً من جهة ثانية. وفي وقت تكون فيه دار الإعتماد البريطانية خالية من معظم موظفيها ما عدا كبير الموظفين السيد علي البستاني وهو مسؤول أول في دار الإعتماد، إذ كانت الساعة لحظة وصول حاكم الشارقة الشيخ صقر بن سلطان القاسمي إلى دار الإعتماد حوالي الثالثة ظهراً.
لقد كان بالفعل توقيتاً خبيثاً ولئيماً وغادراً، ماذا حصل بعدئذ؟
لقد قلت أن ما تعرض إليه الحاكم العروبي الشاعر صقر بن سلطان القاسمي كان مؤامرة إستخبارية بريطانية لئيمة. إشترك في حبكها وتنفيذها والغدر بحاكم عروبي إفتتح يومها ونكاية ببريطانيا ومعتمدها في الخليج – افتتح مكتبا للجامعة العربية متحديا بذلك التاج البريطاني وأهله وكبار موظفيه في منطقة الخليج يومئذ، تحدياً غير مسبوقاً أبداً، وما جرى سننشره في حلقات قادمة بإذن الله.
جلسة دردشة مع الشيخ الكبير راشد النعيمي
وفي نهاية المطاف، إستقبلني سموّ الشيخ راشد النعيمي حاكم المشيخة في قصره، وقد لفت نظري أنه يحمل بيده اليمنى مسدساً من عيار 83 وهو من العيار الثقيل، وكان المسدس محشواً بطلقات عددية وحينما استفسرت منه عن سبب وجود هذا المسدس بين يديه قال لي: نحن نحب السلاح. وعلى إستعداد تام لإستعماله عند الضرورة!
ثم رحب بي ترحيباً مسلحاً وكان لا يزال المسدس يتنقل ويتحرك من يده اليمنى إلى يده اليسرى. هنا بدأت حديثي معه حول ما تُعانيه معظم المشيخات
وفي طليعتها مشيخة عجمان من قلة في السيولة النقدية ومن عجز في تنفيذ المشاريع، هنا رد عليّ قائلا الخير كل الخير عند الله وعند الأخ الكبير الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، حفظه الله.
وبالفعل، فلقد تحققت رؤى الشيخ راشد النعيمي كما تحققت جميع الآمال التي عُقدت على همة وشخص الشيخ زايد بن سلطان.
وقبل أن أنهي حديثي مع الشيخ الجليل راشد النعيمي سألته قائلاً: هل تريد أن تقدم لي هذا المسدس هدية منك لشخصي أم حملته لأسباب أخرى؟ يا طويل العمر.
هنا أراد أن يقدمه لي بالفعل ليكون هدية عربون تقدير للصحافة وللصحافيين لكنني شكرته ورفضت قبول هدية كهذه يمكن أن تسبب لي متاعب كبرى.
ولذا رأينا أنه بفضل الله تعالى، وبفضل النفط انطلقت مشيخات الخليج أو ساحل عمان المتصالح لتحقيق أكثر من نهضة صناعية وإنمائية وعمرانية وتربوية وتثقيفية، أن ذلك كله ما كان له أن يتحقق لولا قيام دولة الإمارات العربية، ولولا التضحيات الكبرى التي تحملها الشيخ زايد بن سلطان، والتي تحمل مسؤولياتها المادية والسياسية كلها، ولولا المليارات التي أنفقت من أجل تحقيق الحلم الكبير الذي أخذ على عاتقه الراحل الكبير الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان مهمة تحقيقه مهما كلف الأمر.
وهكذا نرى، أنه بفضل الله تعالى قامت دولة الإمارات العربية، وبفضل الإرادة الحكيمة والعزيمة الكبرى، والإصرار على النهوض بشعب الخليج إلى أرقى المستويات، وبفضل الوفاء للأرض والوطن والشعب، وبفضل جهود الراحل العظيم الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان تحقق كل ما كان حبرا على الورق.
Leave a Reply