زيارة الرئيس الأميركي جورج بوش إلى منطقة الشرق الأوسط قريبا، هدفها المعلن مشاركة الإسرائيليين الإحتفاء بإقامة دولتهم في الذكرى الستين، وهي تحمل معاني خفية لا شك أبرزها وأد الحلم الفلسطيني بإقامة دولة خاصة بهم، والإستعاضة عن ذاك الحلم بكابوس، أطلق عليه الرئيس نفسه مصطلح «تعريف» الدولة الفلسطينية واضعا لهذا التعريف سقفا زمنيا، ينتهي بانتهاء ولايته أواخر العام، وكأن الفلسطينيين يقودهم حظهم العاثر أن يحاصروا ويأسروا وتدمر منازلهم وتسفك دماؤهم في مقابل تعريف لدولة يمكن أن تقام ويمكن أن لا تقام.
الأشد وطأة من ذلك على الفلسطينيين ركون البعض منهم إلى المشروع الأميركي الصهيوني للسلام، وأن هذا البعض تآزرت جهوده مع جهود أنظمة عربية خلف هذا المشروع، ومنها مصر والسعودية وهما على أية حال على جدول زيارة الرئيس الأميركة في رحلته المقبلة. كونداليزا رايس استبقت تلك الرحلة بتصريحات حثت فيها دول الثراء العربية بالوفاء بالتزاماتها المالية التي قطعتها تجاه السلطة الفلسطينية في مؤتمر أنابوليس، فيما أعطت الضوء الأخضر لإسرائيل بالتمادي في حصار غزة وقطع الوقود عنها حتى وصل الأمر بأصحاب سيارات الأجرة فيها باستبدال الديزل بزيت الفلافل وقودا لسياراتهم، وفي ذلك إشارة إلى أن أمام الفلسطينيين واحد من طريقين: إما الدخول في بيت الطاعة الأميركي والإسرائيلي المقرون برغد العيش، وإما الخروج منه بسياط تجلد ظهورهم، فذلك هو مشروع السلام، وذلك هو «التعريف».
القيادة في رام الله تدرك أن لا فائدةترجى من مفاوضات مبتذلة مع رئيس حكومة إسرائيلي ضعيف وعهود من رئيس أميركي في الهزيع الأخير من ولايته، لكنها لا ترغب في البوح بأسرارها، فهي إن أعلنت إفلاس برنامجها السياسي أمام الشعب الفلسطيني، فكأنما تعلن إنهيارها وتسلّم مصائر الناس إلى المجهول، وهي إن عضّت على جراحها إلى حين فذلك لا يعفيها من المصارحة، يكفي أن تقول لهذا الشعب أنها نالت شرف المحاولة وفشلت.
علمّنا تاريخ الصراع في المنطقة أن ما من شعب حرّر وطنه ونال إستقلاله بغير المقاومة، فالجنوب اللبناني لم ينسحب منه الجيش الإسرائيلي إلا بعد معارك عنيفة وعمليات باسلة نفذها رجال المقاومة أجبرت رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إيهود باراك، على الإنسحاب بضغط من الشارع الإسرائيلي لكثرة ما تكبدوا من خسائر في الأرواح، وكذلك غزة، حتى سيناء ما كان لإسرائيل أن تنسحب منها إلا عقب حرب ضروس خاضها الجيش المصري عام 1973، تلتها معاهدة سلام، فكيف للسلطة الفلسطينية أن تقيم دولة عاصمتها القدس وخالية من المستوطنات وذات سيادة، لمجرد لقاءات بين محمود عباس وايهود أولمرت وإستقبالات وجولات ومفاوضات سقيمة ليس لها أول من آخر. والقائلون أن الأردن أنجز معاهدة سلام مع الدولة العبرية دون تحمله عناء الحروب والمقاومة، فذلك لأنه اكتفى بخسارته الضفة الغربية في حرب 1967، وإستعاد قطعة أرض في وادي عربة، سوف تظل مؤجرة لإسرائيل مئة عام، ولو كانت المفاوضات وحدها تحرر ديارا لتحررت هضبة الجولان السورية زمن حافظ الأسد ورابين وكلينتون، لكنه المنطق التاريخي لا يتغير فما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة.
ولأن العرب متفرقون ومشتتة قواهم، وكذلك الفلسطينيين، فلا عجب أن تكون القضية الفلسطينية مسألة معقدة غير قابلة للحل في زمن منظور، وذلك أصاب أصحاب هذه القضية داخل الأرض المحتلة وخارجها بالأسى والإحباط، فلا هم قادرون على تحرير أرضهم بالقوة ولا بالطرق السلمية، وهذا ما أفضى إلى بروز طريق ثالث، بقيادة الناشط والسياسي الفلسطيني الدكتور مصطفى البرغوثي وعدد من الشخصيات، أطلقوا عليه إسم «المبادرة الفلسطينية» وهي تستند في خطوطها الرئيسية إلى فكر ومباديء البروفسور والمفكر الأميركي من أصل فلسطيني الراحل إدوارد سعيد، الذي طالما نادى بمهادنة إسرائيل عسكريا ومقاومتها سلميا إلى أمد طويل، ملخصا بذلك حكمة فلسطينية قديمة «حتى لا يموت الذئب ولا تفنى الغنم»، ومعنى ذلك الإبقاء على شعلة الصراع متقدة جيلا بعد جيل.
Leave a Reply