لو كنت اعرف ان القرار الذي اتخذته حكومتي باعتبار شبكة الاتصالات التابعة «لحزب الله»، اعتداء على سيادة الدولة، والقرار بإعادة العميد وفيق شقير الى ملاك الجيش اللبناني سوف يثيران ردة الفعل العنيفة التي اظهرها «حزب الله»، من اقفال طريق المطار وبالتالي عزل لبنان عن العالم، ثم النزول الى الشارع بالسلاح، للتصدي لهذين القرارين لكنت احجمت عن الموافقة على صدورهما».
هذا التصريح لم يقله علناً رئيس الحكومة اللبنانية المتهمة من قبل المعارضة بفقدان الشرعية والميثاقية و«العمالة» للأميركيين والاسرائيليين.
لكن ثمة من يعتقد بأن السنيورة كان متردداً قبل اتخاذ حكومته القرارين اللذين اثارا عاصفة امنية خطيرة غطت العاصمة اللبنانية بالدخان والاتربة واسالت دماء يجب ان لا تسال، وامتدت الى اطراف البلاد النائية مهددة باندلاع حرب اهلية واسعة النطاق اين من رعبها واهوالها حرب العام 1975.
والمراقب الحصيف لجولة العنف التي شهدتها العاصمة اللبنانية طيلة يومين وتوجت بخطابين لزعيم المعارضة امين عام حزب الله السيد حسن نصرالله، وزعيم الموالاة رئيس «تيار المستقبل» النائب سعد الحريري، هو الذي يتمكن من «العثور» على الاسباب الحقيقية الكامنة وراء خطوتي الحكومة والمعارضة على التوالي، للاستدلال بهما على ما ينتظر لبنان والمنطقة من احداث وتطورات يجري التمرين على مواجهتها والتكيف مع متطلباتها منذ امد غير قصير عبر حروب الشاشات قبل ان تنزل الى الميدان بفعل قشة القرارات الحكومية التي قصمت ظهر بعير المعارضة.
لنحاول قبل الانتقال الى قراءة جادة غير احتفالية بكلا خطابي نصرالله والحريري، ان نتصور ردة فعل من قبل «حزب الله» على القرارات الحكومية الاخيرة على الوجه التالي:
يخرج السيد حسن نصرالله ليعلن امام اللبنانيين والعالم ان قرارات حكومة السنيورة هي قرارات غير ذات قيمة ولا مفاعيل عملية لها لان هذه الحكومة غير شرعية وبالتالي تبقى الشبكة شبكة والعميد في مكتبه في مطار بيروت واذا شاءت الحكومة ان «تبلط البحر» فلتفعل!.
لماذا اختار «حزب الله»، اذن، ان يواجه القرارات الحكومية غير القابلة للتطبيق اصلاً، بالنزول الى الشارع ولماذا اضطر امينه العام ان يعلن: «ان المقاومة ستستخدم السلاح في الداخل للدفاع عن السلاح؟». وذلك قبل ان يطمئن اللبنانيين «ان لا فتنة سنية شيعية» و«ان المعركة هي بين مشروع وطني مقاوم شريف وآخر عميل»، وليسارع فوراً وفي سياق الكلام، الى القول: «ان يد الحزب ممدودة للحوار على قاعدة إلغاء القرارات الحكومية وتأكيد ان حزبه لن يقوم بانقلاب ولن يسيطر على الدولة وان المخرج هو في الغاء القرارات والعودة الى طاولة الحوار..».
الاستنتاج المنطقي لسلوك «حزب الله» وردة فعله العنيفة على قرارات حكومية غير قابلة للتطبيق على ارض الواقع هو ان الحزب شعر بأن ثمة جهوداً اميركية حثيثة لنزع سلاحه تجري على هامش النظر في نتائج تطبيق القرار 9551 الذي كان «ناظره» تيري رود لارسون يعرض تقريراً سلبياً بشأنه امام مجلس الامن، وهو القرار الذي صدر قبل أكثر من ثلاثة اعوام ومن اخطر بنوده، بالنسبة لحزب الله، هو البند الذي يدعو الى حل جميع الميلشيات اللبنانية وغير اللبنانية والتخلي عن سلاحها.
لقد ارتكبت حكومة الرئيس فؤاد السنيورة خطأ «تكتيكياً» فادحاً عندما انبرت الى تسليط الضوء على اكثر الامور اثارة لحساسية حزب الله والمتعلقة بـ«امن المقاومة». ولا يستبعد ان تكون الحكومة قد خضعت بالفعل لضغوط اميركية لرفع «الغطاء الشرعي» اللبناني عن ممارسات «حزب الله» على الارض اللبنانية وهو رفع يلزم وجوده في مسلسل الضغوط الاميركية لارغام الحزب على التخلي عن سلاحه.
اما الملفت في ردة فعل «حزب الله» على تلك الخطوة الحكومية غير الموفقة في ظل التشنج اللبناني الداخلي الذي بلغ اعلى مراتبه قبل الانفجار الاخير في شوارع العاصمة بيروت فهو ذلك التعويل على رأي حكومة وقرارات صادرة عنها، بينما توصف ليل نهار انها فاقدة للشرعية والدستورية والميثاقية.
يقودنا هذا الكلام الى محاولة قراءة مدلولات خطاب السيد حسن نصرالله، وهو من اهم الخطابات الصادرة عنه ابان عمر الأزمة القائمة، ليس لانه اكثر «بلاغة» من خطبه السابقة وهو الخطيب المفوه وصاحب الحضور الطاغي على الدوام و«الكاريزما» المميزة بين كل افراد الطبقة السياسية اللبنانية، بل لأنه من اكثر خطبه غزارة بالايحاءات والرسائل المباشرة والصريحة:
«ان قراراتها (الحكومة) اتخذت نيابة عن اميركا واسرائيل وبتكليف منهما». و«المسؤول عن التصعيد هو وليد جنبلاط الرئيس الفعلي للحكومة». هنا اراد السيد نصرالله ابلاغ الرسالة الى «الاعداء الحقيقيين» لحزبه وسلاحه (وليد جنبلاط وحلفاؤه الأميركيون) مبعداً شبهة «العمالة» عن السنة في محاولة لتخفيف الاحتقان المذهبي وبعث رسالة ايجابية الى السنة العرب الذين له في صفوفهم جماهير لا يستهان بحجمها.. «ان يوم اتخاذ الحكومة قراراتها كان يوماً فاصلاً شبيهاً بيوم اغتيال رفيق الحريري في 41 شباط 5002 وان لبنان ما بعده ليس مثل ما قبله»، قال السيد نصرالله.
فما هو وجه الشبه الذي اراد اقامته بين «اليومين»؟.
شكل يوم 14 شباط 2005 بداية النهوض السني في لبنان الذي اسهم في تسريع الخروج العسكري السوري بعد ثلاثين عاماً من الوجود الطاغي وادارة البلد، وما واكب هذا الخروج من شعور شيعي بالخشية من انحسار النفوذ والشأن في المعادلة اللبنانية المعقدة، ووجد ابلغ تعبيراته في التظاهرة المليونية التي قادها «حزب الله» في 8 آذار 2005 اي بعد اقل من شهر واحد على اغتيال الرئيس رفيق الحريري، عاش الشيعة منذ لحظة الخروج السوري هاجس «استهدافهم» من قبل الطوائف المنتفضة على الوجود السوري في اطار ما اطلق عليه حينها «ثورة الارز»، اراد السيد نصرالله ان يبلغ الخارج قبل الداخل ان القرارات الحكومية الموحى بها من الخارج» هي بمثابة محاولة اغتيال لأمن المقاومة وسلاحها وهما من الآن وصاعداً قضية بحجم «القضية» التي خلقها اغتيال الرئيس الحريري، لها تداعياتها التي لا تقل شأناً عما شهده لبنان بعد ذلك الاغتيال.
وعندما يعلن نصرالله ان «على فريق السلطة ان يعلم انه ادخل البلاد بعد الجلسة الاخيرة في وضع جديد» فثمة ايحاء لدعوة الى تسوية جديدة خارج اطار اتفاق الطائف الذي لم يعد يضمن بحسب «حزب الله» حقوق الطائفة الشيعية وهي تنظر الى كبار موظفيها في الدولة ينقلون بقرارات «كيدية» أو «همايونية» كما ورد في بيان مجلس رئاسة حركة امل.
وعندما يعتبر نصرالله «ان الموضوع ابعد من المطار وابعد من العميد شقير» وان التصدي لقرار ازاحة الضابط الشيعي هدفه الحفاظ على المؤسسة العسكرية فإنه يريد طمأنة قيادة الجيش وتشجيعها على البقاء على الحياد في الأزمة السياسية القائمة لأن اي انصياع لتوجيهات الحكومة سوف يضع المؤسسة العسكرية امام خطر الانقسام مثلما حصل في الحرب الاهلية عام 1975.
في المقابل بدا واضحاً ان رد زعيم تيار المستقبل النائب سعد الحريري على خطاب نصرالله حمل استجابة سريعة لشرط التراجع عن القرارات الحكومية الاخيرة رغم اشتراط انتخاب العماد سليمان رئيساً للجمهورية باعتباره موضع «توافق» بين كل الاطراف. ايضاً حمل رد الحريري دعوة مباشرة الى نصرالله اقرب الى النداء «لمنع الشعب اللبناني من السقوط في براثن الحرب الاهلية والفتنة الطائفية».
«ان وحدة المسلمين امانة في اعناقنا» قال سعد الحريري مخاطباً السيد نصرالله، داعياً اياه الى كلمة سواء ولفك الحصار ومحذراً من ان ما يقوم به مقاتلون موالون لحزب الله في بيروت هو اعلان صريح بافلاس المقاومة».
بدا واضحاً ايضاً ان كلام الحريري الذي اتى مباشرة بعد خطاب نصرالله توخى لقاء زعيم حزب الله في منتصف طريق يحرص الرجلان على عدم تحويله الى ساحة صراع مذهبي لا مصلحة لهما ولجمهورهما في اندلاعه.
بالطبع ليس من المضمون بأن تجري رياح الاحداث بما تشتهي سفن اللاعبين الداخليين، وقد لا تفلح نبرة التهدئة التي لم يخل منها الخطابان بعد المواجهات الدامية بين الانصار في شوارع واحياء استعاد اهلها رعب واهوال حرب ظنوا انها ولت الى غير رجعة، والمسألة تكمن اولاً واخيراً بمقدار تمتع اللبنانيين بارادة التصدي لتنفيذ المشاريع والمصالح الاقليمية والدولية فوق جثثهم واحلامهم بوطن يتسع لهم جميعاً. وما شهدته بيروت وبعض المناطق من احداث ذكرت اللبنانيين بحربهم الاهلية، يجدر ان يوقظهم من احلام يقظتهم بأن فئة او طائفة بامكانها ان تستأثر او تنفرد بالسلطة في بلد علة وجوده هو التعايش والتوافق بين جميع مكوناته وان الغلبة فيه لفئة على فئة ان هي إلا وهم قاتل للجميع.
فهل ينجح الخطابان في كبح جماح الغرائز التي اطلق لها عنان التعبير في شارع اشبع على مدى سنوات ثلاث بخطاب الشحن والتوتير، ام ان سيف الفتنة قد سبق بالفعل عذل المعالجات العقلانية؟
وهل خرج لبنان جراء الأحداث الأخيرة من الفراغ المنظم والهادئ الى الفوضى الدموية الصاخبة التي تمهد للمواجهات الأكبر بين أطراف الصراع الإقليمي والدولي إذا قرروا ان الساحة اللبنانية تبقى هي الأمثل لتصفية الحسابات قبل الوصول الى تفاهمات كبرى؟
لا شيء مؤكد بعد. أما الأكيد فهو ان اللبنانيين جميعاً هم الخاسر الأكبر في جميع الأحوال والظروف.
Leave a Reply