رجل يحب كل أنواع المغامرات التجارية والمالية، ويعتبر ذلك كفاحاً ونضالا، ويسعى إلى الإقدام عليها بشجاعة وقلب قوي، شخصيته مرموقة ومعروفة، وهو صديق حميم لحكام الخليج قبل قيام دولة الإمارات وبعدها، ويمتلك أكثر من محل لبيع المجوهرات في دول الخليج العربي.
إنه أحد مشايخ دولة الإمارات العربية، والإبن البار لها، وأحد تجارها المرموقين عرفته في الستينات من القرن المنصرم. وكان في بداية صعوده إلى فوق، ثم التقيت به في محله المختص ببيع المجوهرات، في أبو ظبي. ومرة أخرى التقيته في قصر الحاكم الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، وقد سبق لي بعدها أن نشرت عنه أكثر من تحقيق صحفي بتكليف منه شخصياً. تحدثت فيه عن مشروعاته هنا وهناك، وفي ألمانيا أيضا، بعدما أخبرني أنه اشترى حديقة للحيوانات فيها، ليجعل منها مشروعاً تجاريا مفيداً. وكذلك دأبت على نشر وتتبع أخباره ونشاطاته التجارية، بعد أن زودني بالعديد من الصور عن أعماله التجارية الواسعة والعريضة التي كثيرا ما كان يعتدّ بها إعتداداً كبيراً ومنها صور لحديقة الحيوانات التي اغتبط كثيرا بمشتراها وإمتلاكها. كنت أنشر له كل ما يصلني منه من معلومات وأخبار، وأرسل له نسخاً من المجلة التي خصصت له في معظم أعدادها عدة صفحات تغطية لأنبائه ونشاطاته المالية والتجارية في أبو ظبي وفي خارجها.
لقد استمرت هذه العلاقة الصحافية معه فترة غير قصيرة وكنت أبعث إليه بالفواتير مع نسخ المجلة وأنتظر فلم أكن أتلق منه رداً يذكر!
وفي إحدى زياراتي إلى أبو ظبي التي أكنّ لها ولشعبها الكريم ولمشايخها الأفاضل، كل حب وتقدير وإحترام. لأنني كنت أزورهم جميعاً وأبقى فيها مقيماً أكثر مما كنت أقيم في وطني الحبيب لبنان. في هذه الزيارة، توجهت إلى مكاتب هذا الإنسان الشجاع المغامر ورجل الأعمال النشيط، حيث مقار أعماله الواسعة ممنياً النفس أن التقي بصديق حميم وكريم ومعطاء، يُقدر الصحافة والكلمة وأهلها، بعد غياب طال أمده، دون أن نلتقي ودون أن أتلقى منه أية رسالة جوابية على رسائلي كلها.
مفاجأة كبرى
كانت المفاجأة كبيرة وخيبة الأمل أكبر عندما علمت أنه خارج منطقة الخليج، وأنه مسافر منذ أكثر من شهرين في جولة تجارية تتعلق بالمجوهرات، جولة تشمل أوروبا وبريطانيا بوجه خاص.
وتشاء الظروف العملية الصحافية أن أتوجه إلى لندن وباريس، في رحلة صحافية عرفت من أين بدأت ولم أكن أعرف أين ستنتهي!
سأدع الحديث عن باريس لأروي ما حدث لي في لندن أولا! وبعدها نتحدث عن باريس، التي يُقال عنها أنها منارة للعلم والنور والمعرفة وهي بالفعل كذلك.
وصلت إلى لندن جواً قادماً من باريس. ومن مطار هيثرو توجهت بسيارة التاكسي إلى قلب لندن، وإلى المناطق التي يقطنها أبناء العروبة، وقد حملتُ في أجندتي الصغيرة، عناوين بعض الفنادق التي يمكن لامرئ مثلي من الناس البسطاء، أن يتحمل تكاليف الإقامة والسكن، فضلا عن بقية المتوجبات الضرورية.
وأقدم على ذلك مثلا فندق أوليمبيا وغيره من الفنادق المعقولة بأسعارها وتكاليف الإقامة فيها.
أبناء العروبة الـ«هاي كلاس»!
وفي لقاء مع نزيل عربي التقيته في صالون الفندق المذكور، أخبرني بأن أبناء العروبة ومن أبناء الخليج بالذات، يتواجدون دائماً في فندق «هيلتون لندن أوتيل» لأنه لا يشبهه فندقا آخرا أبدا، وقال لي إن أحببت أن تلتقي بأبناء العروبة «الهاي كلاس» في لندن ما عليك سوى التوجه إلى ذلك الفندق لترى عجباً!
وفي اليوم التالي كنت عند الساعة العاشرة صباحاً أجلس في صالون «هيلتون لندن هوتيل» أتناول قهوة الصباح، في أرقى موقع من مواقع الفخامة والوجاهة في لندن وأغلاها.
مضى على جلوسي أكثر من ساعة ونصف تقريباً، كنت أشاهد بالفعل أبناء العروبة الذين يتعلقون بلندن ويحبون الحياة فيها ويتمنون لو أنهم يستطيعون البقاء فيها زمنا طويلا وحتى يوم القيامة.
وأثناء جلوسي في صالون الفندق المذكور، رأيت العديد من أبناء الخليج الذين يزورون لندن ويُحلّون في هذا الفندق لأسباب عديدة، لا مجال لسردها الآن.
طال جلوسي في صالون الفندق المذكور ولم أسعى خلالها للتعرف إلى أحد من أبناء العروبة ولم ألتق بأحد منهم ولم أسمع من هؤلاء الذين يدخلون ويخرجون منه كلمة «السلام عليكم»!
إنهماك وملل فـي لندن
وفيما كنت منهمكاً في قراءة جريدة الشرق الأوسط المعروفة فوجئت بدخول رجل أعرفه جيداً، وتأكد لديّ أنه هو بذاته وبشخصه وبلحمه أنه الشيخ حميّد بن الشيخ راشد النعيمي شقيق الشيخ علي بن راشد النعيمي، أبناء الشيخ الجليل راشد النعيمي الذي تربطني به وبأبنائه وبشعبه علاقات ود واحترام والذين أتيت على ذكرهم في حلقة سابقة.
وقفت، ثم تقدمت منه وحييتّه، فصافحني مرحباً بي ومُسلماً وكان سلاماً وكلاماً ثم دعاني ودعوته لتناول فنجان قهوة، شكرته ثم اعتذر عن تلبية دعوتي لانشغاله بأمور تجارية يريد أن ينجزها، عارضاً عليّ أن كنت بحاجة إلى أية مساعدة ما فشكرته على عاطفته هذه. ثم ودعني وانصرف على أمل أن نلتقي فيما بعد!
والشيخ حميد هذا، هو اليوم حاكم مشيخة عجمان وعضو في مجلس حكام الإمارات التي تم تشكيل وقيام دولة الإمارات العربية المتحدة فوق أكتاف هذا المجلس العتيد.
وقد سبق لي أن رويت جزءاً من قصة خلافه مع والده الحاكم يومئذ، وكيف أنه غضب لتعيين أخاه ولياً للعهد في المشيخة واستمر غاضباً وحرداناً حتى أقدم والده على تنحية الأخ الذي كان وليا للعهد في ذلك الزمان.
وبعد أن نُحي الشيخ علي عن ولاية العهد، وتسلمها أخوه الشيخ حميد أعلن عن قيام دولة الإمارات وفُتحت أمام المشيخات جميعها أبواب الخير الذي عمّ جميع أبناء الدولة الفتية، وما قام وماتحقق لا يمكن إيجازه بهذه العجالة أبداً.
أموال كثيرة
نعود إلى الشيخ رجل الأعمال الإماراتي، الذي لم يجد مكانا لتوزيع أمواله يمنة ويسرة سوى أن يتكفل بأطعام جميع الحيوانات الموجودة في الحديقة الخاصة بهم، وفي طليعتهم الأسود والقرود والذين عجزت حكومات ألمانيا المتعاقبة على الحكم، أن توفر الطعام لتلك الفصائل من الحيوانات المختلفة المتوحشة منها والأليفة، وبقيت تلك الحكومات في حال عجز عن تقديم الأكل لهم، حتى تقدم رجل الأعمال الإماراتي «بحمية عربية لم يسبقه إليها أحد».
فتعهد هو أن يحلّ محل الدولة والحكومة، لتقديم كل ما تحتاجه الحديقة وما تضمه من حيوانات شرسة ومفترسة وأليفة، من طعام وشراب وعنايات صحية وطبية ومداواة برفق وحنان، لم تحظى بها قطاعات واسعة من أبناء البشر الذين يفتقدون إلى جزء يسير مما حظيت بها تلك الحيوانات في حديقتهم الخاصة بهم في ألمانيا.
حرية تامة فـي إنفاق المال
ليس هذا مهماً، إنما المهم هنا، أن لكل امرئ ملء الحق والحرية في أن ينفق ماله على هواه، في وقت نرى فيه الكثير من المشاهد المحزنة والمؤلمة التي تدمي القلب وتدمع العيون لها، كالأطفال والعجز والنساء المعدمات المسنات، وأن نرى هؤلاء جميعاً في شوارع وأزقة أكثر من عاصمة عربية. وأن نرى كيف أن الفقر ينحر الكرامات ويسحق الإنسانية سحقاً مؤلماً ورهيباً، دون أن ينبري غنياً أو موسراً أو أمير نفط أو حاكم تكدست في خزائنه وخزائن البنوك في الخارج بالكثير من الملايين من الدولارات أو أن يتقدم لمساعدة تلك الأنفس البريئة التي ستتحول مستقبلا لتصبح أعداء للإنسانية وعناصر خطيرة لعصابات القتل والإجرام، لكي ينتشلها قبل أن تغوص هذه في مستنقعات الفسق والرذيلة والإجرام.
نعم، لقد رأينا كيف أن كرامات الناس تداس بالأحذية اللماعة التي تنتهجها مصانع أوروبا خصيصاً لهذه الفئة من البشر وبشكل خاص.
قلت لنعود إلى الشيخ رجل الأعمال الذي كنت قد بعثت إليه، وعلى عنوان مكتبه المشهور في أبو ظبي بأكثر من رسالة وبنسخ من المجلة التي تولت نشر صوره وصور مشاريعه التجارية في كل من دول الخليج وخاصة في أبو ظبي، وكيف أن رسائلي كلها ذهبت أدراج الرياح.
وفي صبيحة اليوم الثالث على مواظبتي الحضور لتناول قهوة الصباح في الصالون الفخم من فندق هيلتون لندن أوتيل، وفيما كنت منشغلا في مشاهدة نوعيات عديدة من البشر ومن مختلف الجنسيات التي تؤم هذا الفندق، وفيما كنت أقلّب بين يدي إحدى الصحف توقفت للحظة عن مطالعة الصحيفة العربية، ثم وقفت وتوجهت نحو الريسيبشن «الإستقبال» لأسأل الموظف الأنيق الذي يقف خلف الكونتوار وسألته قائلاً:
هل المستر فلان، وذكرت له إسم صديقي الذي كنت أنتظره، يقيم لديكم؟
تريث الموظف قليلا، وبعد أن ضرب بأصابعه الرشيقة على كيبورد الكمبيوتير الموضوع أمامه، وبعد أن قرأ ما ارتسم على شاشته فاجأني بقوله: نعم، إنه نزيل لدينا ويقيم في غرفة رقم كذا، لكنه الآن غير موجوداً.
شكرته ثم عدت إلى حيث كنت أجلس وأطالع الصحيفة، وأحتسي القهوة التي طلبتها مرة ثانية وتهالكت على المقعد شاكرا الله على ما تم وجرى.
فأنا لم أكن مرتبطاً معه بموعد إطلاقاً، ولم يكن لدي أي علم أو خبرا أنه نزيل هذا الفندق الذي يفوق فخامة معظم ما لدينا من فنادق وقصور، وإنما الصدفة فقط هي التي ساقتني إلى ركن الإستقبال، بعد أن خطر لي أن أسأل الموظف المختص باستقبال القادمين وتسجيل أسماء جميع النزلاء، أسأله عن صديقنا الحميم!
بقيتُ في مقعدي جالساً متردداً في الإتصال به في غرفته، ولم أتخذ قرارا بعد، بل فضلت التريث بعض الوقت، لعل الله بعد ذلك يُحدث أمراً.
وفيما كنت أعيش لحظات التردد، وإذ بهذا الصديق يُطل وهو يدخل إلى الفندق من بابه الواسع العريض، وحينما توسط الرجل القادم الذي دخل إلى الصالون الفخم الذي أجلس فيه، رأيتني أقف وأتوجه نحوه والذي ما رآني حتى صاح بإسمي مرحباً بي ترحيباً سمعه كل من كان في الصالون، كما صحت أنا بدوري بإسمه وتصافحنا ثم تعانقنا وأخذ كل واحد منا يُرحب بصديقه ترحيباً حاراً.
بعد تلك الضجة، وبعد أن هدأت النفوس، سألني هذا الصديق، منذ متى وأنت في لندن يا علي؟
قلت: منذ ثلاثة أسابيع.
قال: طبعاً، أنت نزيلا هنا في هذا الفندق أليس كذلك يا علي؟
قلت: لا، والله يا صاح.
قال: لم لم تنزل هنا في هذا الفندق؟
قلت: لأنني لا أستطيع أن أدفع فواتيره الملكية يا أخي.
ترحيب .. ثم ترحيب .. ثم رسالة
وعاد يرحب بي بحرارة، وحين انتهى من ترحيبه وبعد أن جلسنا وكل منا لا يزال يردد عبارات الترحيب قلت له: بعثت إليك برسائل وفواتير ونسخ من المجلة أكثر من مرة فلم أتلقى منك على كل ذلك أي جواب يُذكر، فلماذا، يا صاحبي؟
قال: المشاغل، والمشاكل العملية وكثرة الاسفار والسفريات خارج حدود الوطن، ولا زلت منشغلا بأمور عديدة ثم وقف لحظة، فقلت له إلى أين إن شاء الله؟ قال: سأدخل إلى إدارة الفندق المواجهة للصالون، وحين وقف راودتني أفكار وخواطر كانت بعيدة جداً عن كل حقيقة وصواب!
بالفعل دخل إلى إدارة الفندق وغاب ربع ساعة فقط ثم عاد وبيده مغلفاً منتفخاً، وتقدم نحوي وناولني المغلف المحشو قائلا لي:
العفو والمعذرة يا أخ علي، على هذا التقصير، استلمت منه المغلف وشكرته على فعلته هذه، والتي حتى تلك اللحظة لم أعرف بعد ما يحتويه هذا المغلف العزيز.
إرتياح نفسي بعد إستلام مغلف مليء
لقد استمرت الجلسة نصف ساعة بعد إستلامي رسالته كما شربنا أكثر من مرة القهوة، التي أحسست بأن لها طعماً لذيذا وخاصة بعد أن تسلمت المغلف العزيز أيضا. ثم اعتذر لي لارتباطه بموعد عمل وفي نفس الفندق، ثم ودعني وذهب على أمل أن نلتقي مساء على العشاء هنا، وهذا هو الذي حصل فعلا.
لقاء مفاجىء مع الشيخ شخبوط فـي لندن
وقبل أن نفترق سألني الصديق الكريم هذا تاجر المجوهرات المعروف جيدا بمنطقة الخليج قائلاً لي:
هل زرت صاحبك الشيخ شخبوط؟
هنا صُحتُ متسائلاً: وهل هو في لندن يا أخي؟
قال: نعم، وأضاف، إنه يقيم والربع الذي يرافقه في فندق إسمه تشرشل هوتيل.
شكرته على هذا الخبر الذي زوّدني به ووعدته أن أزور الشيخ شخبوط حيث يقيم غدا صباحاً، وبالفعل كنت في الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي في فندق تشرشل هوتيل، لأقابل الشيخ الذي كان حاكما لإمارة أبو ظبي، قبل أن يتولى شقيقه المغفور له الشيخ زايد بن سلطان الحكم والإمارة في أبو ظبي والذي سبق لي أن زرته في أبو ظبي مرات ومرات.
وإلى حلقة قادمة بإذن الله.
«من جعبة الذكريات»
حلقات أسبوعية
بقلم الصحافي الحاج علي عبود
Leave a Reply