صلح الدوحة: هل يؤسس لاستقرار طويل
ام يكون هدنة في استراحة المحاربين الكبار؟
فيما كان اللبنانيون يضبطون ساعاتهم واعصابهم على ما يدور داخل ردهات وكواليس وبين طوابق فندق الشيراتون في العاصمة القطرية، وفيما كانت بعض منظمات المجتمع المدني ذات الاعداد الخجولة ترفع شعار «اذا ما اتفقتوا ما ترجعوا» على طريق مطار رفيق الحريري الدولي في العاصمة اللبنانية، كان ثمة «شيء» بالغ الاهمية والخطورة يدور في خفاء الاتصالات بين اكثر من عاصمة عربية واقليمية ودولية من شأنه ان يقلب الصورة اللبنانية رأساً على عقب في غضون ساعات قليلة، تلت «الانذار» الذي وجهته القيادة القطرية لاطراف الحوار الذين ظل «غزال الخلافات» يرعى بين مراعيهم ويمنع حتى حصول مصافحات عابرة بينهم حتى لحظة تفجر «كلمة السر» التي ظلت قابعة في صدرَي الامير حمد بن خليفة ورئيس وزرائه حتى فجر الواحد والعشرين من ايار وبعد عودتهما من قمة مجلس التعاون الخليجي في مدينة الدمام السعودية التي وصفت بأنها «قمة الأزمة اللبنانية».
والواقع ان الطائرة القطرية التي اقلت الاغلبية والمعارضة واقلعت بهم من مطار بيروت نهاية الاسبوع الماضي كانت قد تزودت بإذن للاقلاع غير ذلك الإذن التقني الذي منحها إياه برج المراقبة في مطار رفيق الحريري الدولي.
كان ثمة «اذن سياسي» من أطراف إقليمية ودولية حصلت عليه الامارة القطرية بنقل الأزمة اللبنانية على عجل من شوارع العاصمة بيروت وبعض المناطق الأخرى الى غرفة العناية الفائقة الاقليمية – الدولية التي اتخذت من فندق الشيراتون في الدوحة «خيمة ميدانية» للشروع بمعالجة الوضع اللبناني الحرج ومنعه من اشعال فتيل حريق كبير في المنطقة بدا ان اطراف ادارة الأزمة غير مهيئين له في تلك اللحظات السياسية والامنية الخطيرة التي تعيشها المنطقة برمتها.
ومع بروز تباشير الحل الذي لاح مع اول خيوط فجر يوم الأربعاء الماضي، انفرجت الأسارير في اكثر من عاصمة عربية واقليمية ودولية واندفع مسؤولون فيها على ارفع المستويات الى الترحيب غير المتحفظ بـ«صلح الدوحة» مقدمين اطيب التمنيات بأن يعيد هذا الاتفاق الأزمة اللبنانية الى سكة الحوار الداخلي الهادئ، لمتابعة المواضع الخلافية في اطار المؤسسات اللبنانية التي اعيدت اليها الروح مع الاعلان عن موعد انتخاب الرئيس واعادة فتح ابواب المجلس النيابي ورفع الاعتصام الذي ظل يحاصر السراي الحكومي لاكثر من عام، كـ«هدية باسم المعارضة» من الرئيس نبيه بري وكإشارة الى بداية «الغيث» الذي توالت «قطراته» تباعاً وتحول الى رذاذ منعش سقط على قلوب اللبنانيين القلقين على الحاضر والمستقبل، بعدما ذرت الحرب الاهلية بقرنيها لساعات ثقيلة وطويلة في شوارع عاصمتهم واحيائها، واعادت تذكيرهم بتلك الحقبة المظلمة من تاريخهم الحديث التي ان جهلها الابناء لصغر سنهم فإن الآباء والأمهات لا يزالون يتذكرون ايامها ولياليها بكل الهول والرعب الذي نشرته في طول بلادهم وعرضها على مدى خمسة عشر عاماً.
ما الذي «حدث» في قطر خلال ساعات وادى الى نتائج «ساحرة» لم تفلح مبادرة الجامعة العربية منذ اشهر طويلة ومبادرة فرنسية تقاطعت معها، الى جانب عدة مبادرات داخلية في تحطيم ولو حلقة صغيرة من السلسلة التي اقفلت ابواب الحلول طيلة تلك الفترة؟
ثمة من يحلو له ان يكتفي بوصف الأسباب بشاعرية من نوع:
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها
فرجت وكان الظن ان لن تفرجا
والواقع ان الأزمة اللبنانية كانت «تضيق» على اصحاب الحل والربط منذ سنوات ثلاث على الأقل حتى وصلت الى نقطة الانفجار الشامل الذي استفظعه المعنيون في الخارج عندما اندفع «حزب الله» بقوته العسكرية المرهوبة الى العاصمة بيروت وبعض اطراف الجبل اللبناني قاذفاً اولى حمم البركان الاقليمي بوجه الجميع بعدما ايقن ان تعففه عن استخدام السلاح في الداخل بات عبئاً ثقيلاً عليه وأمام جمهوره الذي اخذ يفقد الثقة وان ببطء بقدرة هذا الحزب على التعاطي مع تداعيات الحرب الشرسة التي شنتها اسرائيل عليه وعلى بيئته الحاضنة في تموز من العام 2006.
تلك الحرب بنتائجها غير الحاسمة كانت قد ادت ايضاً الى زعزعة مسبوقة لثقة الشارع الاسرائيلي بجيشه وحكومته، وهيمنت على الذكرى الستين لقيام دولة اسرائيل فوق الارض الفلسطينية المحتلة، مثلما ادت الى اقامة جدار دولي عازل على الحدود اللبنانية – الاسرائيلية تمثل بالقرار الدولي رقم 1701 الذي ادى الى نشر ثلاثين الف جندي دولي ولبناني على تلك الحدود، مانعاً، مؤقتاً على الاقل، المقاومة التي يقودها «حزب الله» من استمرار خوض «معركة الممانعة» على الجبهة العسكرية الوحيدة المفتوحة مع اسرائيل فيما معركته السياسية في الداخل اللبناني كانت تصطدم بجدار الممانعة الداخلية التي ابداها فريق الحكومة وحلفاؤه من قوى الرابع عشر من آذار، بوجه الحزب الذي ضاقت المساحة الجغرافية والسياسية اللبنانية عن استيعاب قدراته، وكان قرارا الحكومة الشهيرين بخصوص سلاح اشارته وقائد جهاز امن المطار المحسوب عليه الشرارة التي اشعلت الاحداث الدموية الاخيرة وادت الى سيطرته على العاصمة اللبنانية واضعاً فرقاء الداخل والخارج في مواجهة امر واقع جديد كان من الجنون تجاهله او التصدي له في ظل موازين القوى العسكرية شديدة الاختلال لصالحه.
على ان العملية التي قام بها «حزب الله» حملت من المخاطر على السلم الاهلي الهش ما تعدى مسألة الهزيمة العسكرية لأخصام الداخل، الى العبث بالتوازنات الاستراتيجية التي تتحكم بأوضاع منطقة الشرق الاوسط برمتها، وثمة من اقام مقارنة بين مخاطر نذر الحرب الاهلية المتجددة في لبنان، على السلم الاقليمي وتلك التي مثلتها الحرب الاهلية الاسبانية في بداية القرن المنصرم على السلم الاوروربي، والتي اعتبرت بمثابة الممهد للحرب الكونية الثانية التي دمرت اوروبا وأزهقت ارواح الملايين في تلك القارة وفي القارات الاخرى التي انخرطت دولها في تلك الحرب.
فهل استشعر «المحاربون الكبار» المخاطر التي يمكن ان يجلبها تجدد الحرب الاهلية اللبنانية على استقرار الاقليم الذي يعاني من جروح مفتوحة في فلسطين والعراق وافغانستان، ناهيك عما تشهده اطرافه في اليمن والسودان، فكان القرار الذي قضى باطفاء الحريق اللبناني على عجل وتكليف دولة قطر بهذه المهمة، لأسباب تتصل بقدرة هذه الدولة العربية الصغيرة على جمع الاضداد في ظلال دوحتها، وانطلاقاً من «الدور البناء» الذي ادته قطر خلال حرب تموز وبعدها من حيث اسهامها في ترتيبات الوصول الى وقف العمليات العدائية وصدور القرار 1701 الذي شكل نهاية مرحلة من المواجهة على الجبهة اللبنانية – الاسرائيلية إلا انه لم يحسم وجهة ونوعية الصراع وادواته في المستقبل المنظور على الاقل؟
الثابت ان ثمة ثغرة استراتيجية في فضاء المنطقة احسن «حزب الله» استغلالها وملءها عندما اندفع الى السيطرة على مفاصل القرار السياسي والعسكري في احدى عواصم الاقليم التي احتشدت فيها عناصر الجولة المقبلة من الصراع عليه واضعاً القوى الدولية وعلى رأسها الولايات المتحدة وحليفتها اسرائيل امام خيارين لا ثالث لهما في اللحظة السياسية الحاضرة: اما استدراجها الى حرب استنزاف جديدة تضاف الى الحروب الدائرة في العراق وافغانستان وفلسطين وهي مهمة محفوفة بمخاطر كبيرة على مصالح تلك الدول التي تشارك بوحدات منها في قوات الطوارئ الدولية في الجنوب اللبناني، مع ما تعني حرب الاستنزاف من مخاطر على سلامة جنودها، واما الرضوخ، ولو مؤقتاً، لمقتضيات المعادلة الجديدة التي فرضها بوجه هذه القوى والتي كان من ثمارها الاولى «صلح الدوحة» الذي اعاد لـ«حزب الله» حق النقض في اية قرارات وسياسات داخلية تتصل بسلاحه واستمراره وبدور لبنان في الصراع الدائرَ في المنطقة.
اللبنانيون من جهتهم، لم يستطيعوا وسط فرحتهم العارمة بـ«صلح الدوحة» اخفاء تساؤلاتهم عن ذلك التزامن المدهش بين الاعلان عن اتفاق قادتهم في الدوحة وعن التفاوض الاسرائيلي – السوري «غير المباشر» عبر القناة التركية، ويبدو من الصعب اقناعهم بعدم وجود «رابط ما» بين هذين الحدثين اللذين «نضجا» على وهج النيران المندلعة في شوارع بيروت في السابع من ايار وساعات الحسم العسكري التي تلته.
على ان صلح الدوحة الذي حمل بلا ريب مكسباً سياسياً بارزاً «لحزب الله» ، كترجمة لـ«نصره العسكري» على قوى الرابع عشر من اذار التي تعطلت فجأة رادارات عرابها الابرز النائب وليد جنبلاط، فسقطت بالضربة العسكرية القاضية، وان ظل الحكم على هزيمتها السياسية الناجزة رهناً بـ«ام المعارك الانتخابية» في الربيع القادم.. هذا الصلح يبقى عرضة للكثير من التحديات لمعرفة ما اذا كان «حزب الله» قد قرر بصورة نهائية الولوج الى اللعبة السياسية الداخلية ام ان قدراته التنظيمية وارتباطاته الايديولوجية والمصلحية مع طهران ستعيده الى الانكفاء عن الساحة السياسية بكل تلوثاتها الى ساحة المقاومة التي اثبت جدارته في ميادينها، بعد ان يكون قد اطمأن على سلاحه من شرور القرارات الدولية وناظريها المتربصين به الدوائر.
و«صلح الدوحة» على اهميته ودلالاته النفسية الايجابية التي انعكست على كل اللبنانيين الذين سيكون لهم رئيس يوم الاحد القادم عولوا جميعهم على حكمته و«حياديته» في ازمتهم الاخيرة، هو قائد الجيش العماد ميشال سليمان، يبقى عرضة للإختبار في الاسابيع والاشهر القادمة التي سوف تشهد محطات سياسية ابرزها رحيل الادارة الاميركية الحالية وحلول ادارة جديدة مكانها سوف ترث عنها العديد من الملفات الساخنة في الشرق الاوسط والعالم وابرزها ملف «مكافحة الارهاب» الذي لن يكون بوسع اي ادارة اميركية قادمة تجاهله او الخروج عن سكتة في عصر ما بعد الحادي عشر من ايلول.
واذا كان صلح الدوحة نتاجاً لبراغماتية سياسية مارسها اطراف الصراع الاقليمي في اطار مقايضات امتدت من مدينة الصدر في بغداد و«تطهيرها» الى البصرة والموصل، فمشروع التهدئة في غزة والهدوء على جبهة الملف النووي الايراني وصولاً الى التخلي عن، «ثورة الارز» اللبنانية، الا ان هذه البراغماتية قد لا تؤدي الى اكثر من هدنات سقفها الفراغ من الانتخابات الرئاسية الاميركية لتبنى على نتائجها مقتضيات اقليمية وعالمية عديدة.
Leave a Reply