يوم الأحد الثامن عشر من شهر أيار (مايو) يوم مشهود لا لكونه خصص لجمع التبرعات فحسب، بل لأنه يوم تجتمع فيه أهم شريحة إجتماعية للجالية الإسلامية العربية قلما تجتمع لأمر مهم وهو الإضطلاع على شؤون الجالية ومن أهم شؤونها الإطمئنان على سير مؤسساتها الثقافية التي أنشئتها منذ أوائل الستينيات، وهي الفترة الذهبية التي كان للمسلمين حضورا نوعياً يستهدف إيصال رسالة الإسلام المغمورة ليكشف للمجتمع الأميركي شمولية الرسالة التي تستوعب الأنسانية {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (سبأ 28) ومن أبرز تلك المؤسسات، المساجد والمراكز الثقافية والمنظمات الإجتماعية، وهي بالطبع تمثل شخصية الجالية الإسلامية وهويتها في مجتمع متعدد الثقافات والأيدلوجيات، هذا المجتمع الذي ينظر الى مصالحه بالدرجة الأولى، لكنه يتميّز بالإصغاء والإستماع ألى كل جديد ويملك قابلية التأثر بسرعة متى ما وصلت اليه الرسالة الصادقة التي تلبي حاجته المادية والروحية.
هذا الهدف ترجمه سماحة العلاّمة السيد حسن القزويني إمام المركز الإسلامي بولاية ميشيغن في كلمته الرائعة أمام حشد من كبار الشخصيات الأميركية والعربية، وفي مقدمتهم مسؤولي الأجهزة الإدارية في الولاية وكذلك رجال الأعمال والمثقفين ومحرري الصحف العربية، كلمة السيد القزويني أشارة الى الهدف المباشر من رسالة المراكز الدينية والثقافية، حيث أنطلق من أهم مباديء الخطاب الإنساني الذي لا يستثني أحداً من الخلق، مستفتحاً قوله بالآية الكريمة: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْـزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} (الإسراء 53) وأشار سماحة السيد القزويني بأن توجيه الخالق سبحانه لعباده إعتماد القول الحسن في دعوتهم للإصلاح، لأن عكس القول الحسن هو القول السيء ذلك من عمل الشيطان ألذي لا يوفر فرصة في الإيقاع بين الناس، وضرب السيد القزويني أمثلة من التاريخ للذين ألتزموا هذا المبدأ ودفعوا من أجله أرواحهم ثمناً، إن التمسك بهذا المنطق الحسن ليس ضعفاً ولا تهاوناً ولا تنازلاً عن الحق، بل هو القوة بعينها المرتبطة بصاحب القوة المطلقة، فإذا كانت للباطل جولة فإن للحق جولات، ثم بين سماحة السيد القزويني ما كان عليه المسلمون في أميركا قبل الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) حيث كان المسلمون ينعمون بالحرية في ممارسة شعائرهم الدينية دون ضغوط من دولة القوانين أللهم إلا من النزاعات الداخلية بين المؤسسات في التسابق لمن يكون له الغلبة والتمثيل للمسلمين في هذا البلد، ولم تخلُ ساحة المسلمين في أميركا من محاولات التشويه لصورة الاسلام والمسلمين في الإعلام الغربي بشكل عام وفي هذا البلد بشكل خاص، أما بعد عمليات 11 أيلول العمياء تغيرت الصورة تماماً وقدم الجهلة بعملياتهم، أفضل هدية للذين يريدون السوء بالإسلام والمسلمين في أميركا، ويتزعم تلك الجهات اللوبي الصهيوني الذي يستخدم أسوأ الأساليب للقضاء على القوى الإسلامية الفاعلة ومن أبرز أعماله المعلنة تأييد أكبر المنظمات اليهودية، كاللجنة اليهودية الأميركية، ولجنة مكافحة التشويه الذي يسمح للحكومة الأميركية إحتجاز الأجانب المقيمين بالولايات المتحدة بدون دليل معلن لهم أو لمحاميهم، وهذا القانون الذي سمي بقانون «الأدلة السرية» وقد تم تطبيقه بصفة تكاد تكون منفردة ضد المسلمين والعرب المقيمين بأميركا.
إن كلمة السيد القزويني وضعت النقاط على الحروف لإعادة التوازن في العلاقة السوية بين المسلمين المقيمين على هذه الإرض والشعب الأميركي بعد أن نسفت تلك العلاقة بفعل الجهل والتطرف من فئات محسوبة على الاسلام، وبسبب الطيش والغرور السياسي لجنرالات الحرب، وذكر سماحته إن نسبة الرافضين لمجاورة المسلمين أو العرب أكثر من مليون ونصف المليون، وهي في حالة تصاعد بسبب الحملات الإعلامية المبرمجة، ثم وجه السيد خطابه للمسلمين لتغيير نمط التعامل ولغة التخاطب مع الشعب الأميركي، وذلك بزيادة وعي المسلمين الأميركيين بحقوقهم المدنية في ممارسة شعائرهم الدينية في مختلف المؤسسات العامة والدفاع عن تلك الحقوق وفق القانون، وأكد على تشجيع المسلمين الأميركيين للمشاركة في الحياة السياسية والإستفادة من حقوقهم المكفولة دستورياً وخاصة حق التصويت وحرية تشكيل التنظيمات السياسية والترشيح لتولي مناصب سياسية، العمل بجد لإقناع الساسة بمصالح هذا البلد والتأثير على الخارجية الأميركية للنظر في قضايا المسلمين وفي مقدمتها قضية فلسطين والعراق وأفغانستان، وطالب القزويني من المخلصين المبادرة لمعالجة الإشكالات للحيلولة دون وقوع كوارث مستقبلية في العلاقات الإسلامية الأميركية مشابهة للكارثة الحالية التي أعادت المسلمين للمربع الأول في تشكيلة هذا الشعب، وحث إلى حشد طاقات العالم الإسلامي كجماعات وأفراد خلف مسلمي أميركا الذين يطمحون في لعب دور الوسيط الإستراتيجي في علاقة أميركا بالعالم الإسلامي وتفعيل دور العالم الإسلامي في علاقة الولايات المتحدة بالمسلمين وقضاياه، ليس فقط ما يرتبط بمصالح الحكومات وإنما أيضا كجماعات غير حكومية وأفراد الذين لهم دور جماعات المصالح وقوى الضغط الشعبية القادرة على إسماع صوتها لحكومة أكبر دولة في العالم؛ إذا ما أحسنت استخدام ما يتوافر لديها من موارد اقتصادية وثقافية وشبكات إعلام وإنترنت في عصر العولمة وتكنولوجيا الاتصالات.
أن ألأزمات التي عكرت العلاقة بين المسلمين والشعب الأميركي بالخصوص أزمة أيلول وتوابعها لن توقف التطور السياسي للقوى الإسلامية والأميركية حتى لو عطلته لبعض الوقت، أن طبيعة القوى السياسية الأميركية ذاتها واستنادها على الهوية الإسلامية كمصدر لقيمها، وهو ما يجعلها قوى أقل تعرضا لضغوط الذوبان السياسي والاجتماعي داخل المجتمع الأميركي؛ فالهوية الإسلامية تمد تلك القوى بمصدر دائم للتمييز والتفرد والذاكرة الجماعية المستقلة داخل المجتمع الأميركي.
إن المسلمين في أميركا مطالبون اليوم أكثر من أي وقت مضى لحشد طاقاتهم وقدراتهم التي تتناسب مع ثقافة هذا البلد ومصالح شعبه لأنهم جزء منه لكنهم ليسوا مجبورين للتخلي عن ثقافتهم وهويتهم الدينية، وإن كثرت الضغوط التي يتعرضون لها لن تؤثر إذا ما التزموا بالخطاب الحسن والعمل الأحسن.
Leave a Reply