متعصبّون يريدونها مرتعاً للفساد والتبشير
.. والجالية العربية في ديربورن تحتشد لمواجهتها
ديربورن – خاص «صدى الوطن»
كثيرون من سكان مدينة ديربورن العرب كانوا يجنحون قبل سنواتٍ قليلة إلى الإحجام عن إرسال أبنائهم وبناتهم (خصوصاً) إلى ثانوية فوردسون. السبب كان موحداً لدى معظم هؤلاء: ثمة أنواع من الإنحراف والفساد والفوضى كانت تسهم في رسم صورة غير مشرقة عن هذه المدرسة الثانوية التي تقع في قلب التجمع السكني للعرب الأميركيين في شرق المدينة، وذات التاريخ العريق فيها.
تلك الخشية من «ضياع» الأبناء والبنات كان لها بالطبع ما يبررها لدى السكان العرب وهم من الجيل الأول بمعظمهم الذين إستقروا في هذه المنطقة خلال العقود الثلاثة الأخيرة وغيروا «وجه» المدينة بأنشطتهم التجارية محدثين فيها تطويراً إقتصادياً وعمرانيا غير مسبوق في قسمها الشرقي على الأقل. وهؤلاء السكان، رغم إنخراطهم في البيئة الإقتصادية والتجارية بصورة فاعلة ومؤثرة، إلا أنهم ظلوا منشدّين إلى ثقافتهم وتراثهم ولغتهم ودينهم، يعبر عن هذا الإنشداد تلك الطفرة في المؤسسات والأندية والمراكز الإجتماعية والدينية التي أنشأوها في محيطهم السكني، جاهدين في محاولة ربط أبنائهم وبناتهم بثقافتهم ولغتهم ودينهم، يشجعهم جوّ التسامح والحرية الثقافية والدينية الذي يتيحه المجتمع الأميركي المتنوع الثقافات والأديان.
كانت ثانوية فوردسون إذن تشكل على الدوام ذلك الهاجس «المخيف» لبعض أهالي المراهقين ممن قاموا مكرهين بإرسال أبنائهم وبناتهم إلى تلك الثانوية لعدم توافر خيارات أخرى أمامهم. بعضهم لجأ إلى ثانويات ذات طابع إسلامي، إلا أن تعثر تجربة هذه الثانويات أعادهم إلى مواجهة واقعهم مرة جديدة.
بالطبع كان ثمة مبالغة في تصوير المخاطر، ولطالما دخل كاتب هذه السطور في نقاشات مع بعض الأهالي للتخفيف من هواجسهم، ولكن إسباغ صفة النقاء على تلك المدرسة كان يبدو ضرباً من العبث ومجافاة الحقائق. فهذه الثانوية كغيرها من ثانويات المدينة والولاية والثانويات الأميركية عموماً ضمت بين جدرانها وداخل ممراتها أنواعاً من الإنحراف لم يكن من الحكمة، قبل الصدق إخفاؤها أو إدعاء عدم وجودها.
قبل نحو أربعة أعوام إستعانت مديرية التعليم الثانوي في ديربورن على عجل بأحد المربين العرب الأميركيين، هو الأستاذ عماد فضل الله الذي كان يتولى إدارة مدرسة متوسطة في غرب المدينة، والسبب أن مديرها آنذاك تورط في قضية فسادٍ مالي أدت إلى فصله. توسم الكثيرون خيراً، وأنا منهم، بحلول الأستاذ فضل الله في إدارة الثانوية وأذكر أنني تحدثت إليه عن مشاعر الإرتياح التي عمت أجواء الجالية العربية
الأميركية التي كانت قد بدأت تتلقى طلائع الإجراءات الجديدة التي شرع فضل الله في تطبيقها وكان ينقلها الطلاب إلى أهاليهم متحدثين عن «حزم» هذا المدير وعدم تساهله مع ما كان يراه الطلاب «شيئاً طبيعيا» في سلوكهم. وأذكر أنني ألقيت «محاضرة» على رأس إبني عن محاسن الإجراءات التي سمعت بها منه مثلما سمع بها الكثير من الأهالي وقلت له بالحرف: هذا هو المدير الذي نريده في مدرستكم. لقد إتخذت إدارة مدارس ديربورن أحكم خطوة في مدرسة تبلغ نسبة الطلاب العرب فيها ما يربو على التسعين بالمائة.
وفي كل مرة كنت أقصد الثانوية للإطلاع على أداء إبني كنت ألتقي بالأستاذ فضل الله وأعبر أمامه عن إرتياحي وإرتياح الكثيرين ممن أتحدث إليهم لأدائه الإداري الذي استطاع من خلاله إحداث تغييرات إيجابية كبيرة في سير العملية التعليمية وتنقيتها من شوائب كثيرة اعترتها في السابق وكانت مبعث قلقٍ مشروع لدى الأهالي.
منذ توليه إدارة الثانوية جعل فضل الله عملية التعليم أولوية مطلقة. كافح العديد من «العادات» التي تطبّع عليها الطلبة، مثل التشغيل الكاذب لجرس الإنذار والإستهتار بالنظم والقواعد المدرسية كإرتداء البيجامات عند الحضور إلى المدرسة أو الألبسة غير اللائقة بالجوّ الدراسي.
فقد وضع فضل الله مواصفات لمظهر الطلبة ونفذّها بالإقناع والمنطق قبل أي شيء آخر. فتح أبواب مكتبه أمام الطلاب والأهالي لسماع شكاواهم، مما شجع الكثير من الأهالي على زيادة إنخراطهم في شؤون أبنائهم وبناتهم التعليمية، شهدت الثانوية تغييراً كبيراً في عدد الطلاب الحائزين على منح دراسية في وقت كان المدير فضل الله يسفّه الحكم المسبق المحبط لطموحات الطلاب والأهالي على حدّ سواء والذي كان يبثه بعض أعضاء الهيئة التدريسية حول «الإمكانيات المحدودة» لدى طلابنا للتحصيل العلمي أثبت لهم فضل الله العكس، عندما كان طلاب مجلّون يحصلون كل عام على مدى الأعوام الأربعة الماضية على أرفع المنح الدراسية في أرقى جامعات الولاية وغيرها وبمعدلات أكاديمية تبعث على الفخر والإعتزاز.
هذه الإنجازات والتغييرات الإيجابية يبدو أنها لم تكن تروق لبعض أعضاء الهيئة التدريسية الذين لم ينظروا يوماً بعين الإرتياح للخلفية الثقافية لمديرهم الذي كان ينطلق في إدارته لشوؤن الثانوية من فهمه العميق لثقافة السكان الذين يشكل أبناؤهم وبناتهم النسبة الساحقة من المجتمع الطالبي في ثانوية فوردسون. وقد ساء هؤلاء إقدام المدير على وقف توزيع «إستطلاع مسحي» في صفوف الطلاب حول موضوع إقامة علاقات (جنسية) بين الطلاب والطالبات، وثارت ثائرتهم باعتبار هذا المنع إجراء «غير أميركي» لكأن الإباحية والإنفلات الأخلاقي من صلب القيم الأميركية! ولكأن المجتمع الأميركي لا يعاني من مشاكل في صفوف المراهقين سببها هذه «الحرية» الموهومة التي تزين للمراهقين والمراهقات أن إنحرافهم ليس إلا «إنفتاحاً» «وقيمة أميركية»!
وصلت هذه المضايقات والإتهامات الزائفة ببعض المدرسين الموتورين والمتعصبين إلى إتهام المدير بضرب أحد الطلبة، وادعت إحدى المدرسات أنها «سمعت» ضربة كفّ من وراء باب الغرفة المغلق، مدرس آخر تقدم بشكوى لدى إدارة المدارس ضد فضل الله لأن أحد الأعلام الأميركية داخل المبنى تزحزح قليلاً عن قاعدته، وفسّر الأمر على أنه «مؤامرة» ضد العلم الأميركي! كانت هذه الممارسات من قبل بعض المدرسين وأنصارهم خارج المدرسة وضمن إتحاد معلمي المدينة تكبر يوماً عن يوم، وظل المدير فضل الله يتعامل معها بحكمة الحصر والحرص على عدم نشرها حفاظاً على سمعة المدارس وإتقاءً لردود فعل غاضبة من أهالي الطلاب من شأنها أن تزعزع ثقتهم بالقطاع المدرسي الذي يشكل أبناؤهم وبناتهم نسبة تفوق السبعين بالمائة من طلابه.
عضّ فضل الله على الكثير من الجراح المعنوية التي أحدثتها له سلسلة من الإستجوابات والتحقيقات المتسبّبة بها وشايات خبيثة وكاذبة ضمن إطار حملة منظمة إستهدفته منذ حلوله في إدارة ثانوية فوردسون، من داخل الثانوية إمتداداً إلى جماعات متعصبة تدير مواقع على شبكة الإنترنت، أبرزها موقع تديره الصحفية الصهيونية المتعصبة والمناهضة لكل ما هو عربي دوبي شلاسيل.
ولما أيقن الأستاذ عماد فضل الله أن هنالك حملة منظمة تستهدفه كمدير عربي أميركي لثانوية تبلغ نسبة الطلاب العرب الأميركيين فيها أكثر من تسعين بالمائة وأن المسألة ليست بريئة على الإطلاق أخذ يُفصح عما يتعرض له من مضايقات لوقوفه في وجه أولئك المتعصبين الذين يريدون المدرسة بطلابها وطالباتها مرتعاً لأنشطتهم التبشيرية المخالفة للقوانين الأميركية التي تمنع أي نشاط ديني تبشيري في المدارس الحكومية.
ولقد عبرّت بعض المواقع الإلكترونية التبشيرية عن رغبتها الصريحة في إستهداف التلامذة العرب والمسلمين في مدينة ديربورن للسطو على عقولهم الطريّة وتحويلهم عن دين آبائهم وأجدادهم حتى أن بعض الأنشطة والرحلات الرياضية التي أشرف عليها مدربون متطوعون وموظفون في الثانوية لم تكن سوى غطاءٍ لعملية تبشير ديني أبلغ بعض الطلبة عنها إلى المدير. وعندما إتخذ الخطوات القانونية بحق أصحابها بعد تحذيرهم المرة تلو المرة إستشاطوا غضباً وراحوا يكيلون له التهم الزائفة التي لم تثبت واحدة منها على الإطلاق.
ويوم الثلاثاء الماضي عقد المجلس التربوي جلسة في مقره العام على شارع أوديت وكان الإتهام الموجه لمدير فوردسون بضرب أحد التلامذة والتحقيقات بشأنه بندا على جدول الأعمال. وقد قامت قيادات وفعاليات عربية أميركية في المدينة بتوجيه نداء إلى الأهالي لكي يحضروا هذه الجلسة ويظهروا دعمهم للمدير الذي يتعرض لأخبث حملة يشهدها القطاع المدرسي ضد مربٍ ناجحٍ ونزيه ومستقيم في أداء وظيفته. وقد لبى مئات من الأهالي وأبنائهم وبناتهم تلك الدعوة وملأوا قاعة المجلس والقاعات والردهات المحاذية متابعين مداولات أعضاء المجلس. وفي لحظة إعلان المدير العام لمدارس ديربورن الدكتور جون آرتيس المغادر قريباً، عن «حادثة ثانوية فوردسون» ساد إصغاء شديد وسط الحضور وهم يستمعون إلى المدير العام يقول حرفياً: «بعد لقائي لأكثر من ساعة بالطالب موضوع الشكوى تبيّن لي أن الحادثة لا أساس لها من الصحة على الإطلاق وأن هذا الطالب تعرض للضغط من قبل بعض المدرسين في إفادته»، ملمحاً إلى إمكانية إتخاذ عقوبات مسلكية بحقهم وقوبل هذا التصريح بعاصفة من التصفيق من الحضور. كذلك تحدثت رئيسة المجلس عن الموضوع مؤكدة أن المجلس التربوي لا صلاحية له بالتحقيق في أمور تجري داخل المباني المدرسية وأن هذا الأمر من إختصاص المدير العام وإتحاد المعلمين.
وإلى جانب «تبرئة» المدير فضل الله من التهم الخبيثة التي فبركها بعض المدرسين المتعصبين ضده، فقد شكل تدفق المئات من أهالي الطلاب وفعاليات الجالية وممثلي مراكزها الحقوقية والدينية والإجتماعية رسالة دعم لا لُبس فيها للأستاذ عماد فضل الله للإستمرار في مسيرة تطوير وتنقية الجوّ الأكاديمي في ثانوية فوردسون وأن بعض المتعصبين فيها وأنصارهم في خارج وداخل القطاع المدرسي سيواجهون من الآن وصاعداً ليس فقط مديراً حريصاً على فرض القانون وحماية الطلاب والطالبات بل مجتمعاً عربياً أميركياً بأكمله بات يعتبر نفسه مستهدفاً من هؤلاء بأعزّ ما يملك: أبنائه وبناته.
فهل يدرك القيمون على القطاع المدرسي خطورة الممارسات التي يقوم بها أولئك المتعصبون؟
إن ما شهده إجتماع المجلس التربوي مساء يوم الثلاثاء الماضي يبشر بانعطافة إيجابية لصالح إرساء جوّ التهدئة وفهم الغضب الكامن في نفوس أهالي الطلبة. فعسى أن تكون الرسالة قد وصلت إلى أفهام المتعصبين أن مهمتهم في ثانوية فوردسون وغيرها من المدارس قد أنفضحت، وأن محاولاتهم لإزاحة المدير فضل الله أو إبعاده سوف تواجه من قبل أهالي 11 ألف طالب وطالبة من أصل 17 ألف هو التعداد الإجمالي لطلاب القطاع المدرسي في ديربورن.
يبقى القول أن أهالي الطلاب والفعاليات والقيادات في الجالية العربية في مدينة ديربورن قد برهنوا بالفعل، عن إحساس عالٍ بالمسؤولية عندما ملأوا مبنى المجلس التربوي مساء الثلاثاء الماضي، والمأمول منهم جميعاً أن يبقوا متيقظين لما تُحيكه قلة من المتعصبين في ثانوية فوردسون وبعض أنصارهم في المدينة وخارجها.
وهذه اليقظة يجب أن تترجم بالتواصل مع إدارة ثانوية فوردسون وتوفير أقصى أنواع الدعم المعنوي لمديرها الأستاذ عماد فضل الله والإتصال بقسم الموارد البشرية في القطاع المدرسي وترك رسائل صوتية معبرة عن دعمهم لفضل الله بأسلوب هادئ وحضاري وحازم ولكن بعيداً عن أي تشنج أو إنفعال.
Leave a Reply