ثالث قائد للجيش يصل لرئاسة الجمهورية بالانتخاب وليس بالانقلاب
العهد الجديد هل يدير الأزمات أو يجد حلولا لها؟
لم يتمكن اللبنانيون من ان يختاروا رئيس جمهوريتهم، بارادتهم وبقرارهم الحر، وقد كتب عليهم ان يصنع رئيسهم في الخارج، وهذا ما يؤكده انتخاب 12 رئيساً للجمهورية بقرار خارجي، وهو ما حصل منذ انتخاب اول رئيس للجمهورية بعد الاستقلال بشارة الخوري الى اول رئيس للجمهورية بعد خروج القوات السورية من لبنان قبل ثلاث سنوات. ولم يغب التأثير الخارجي في انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وان كان بالتوافق العربي والاقليمي والدولي عليه، مترافقاً مع الاجماع اللبناني الذي اعتبره مرشحاً توافقياً، وعلى مسافة واحدة من الجميع من خلال ممارسة دور الحياد في قيادته للجيش الذي ابقاه بعيداً عن التجاذبات السياسية، وقد استلهم بذلك موقف قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب اثناء احداث عام 1958، الذي حيّد المؤسسة العسكرية عن الصراعات الداخلية، وقد فتح له عدم الانحياز الطريق الى رئاسة الجمهورية، حيث يوجد وجه تشابه بين ظروف مجيء شهاب ووصول سليمان الى الرئاسة الاولى، وكل منهما جاءت تزكيته من مصر، الاول بتشجيع من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذي كان رئيساً للجمهورية العربية المتحدة (مصر وسوريا) وتمكن بالتوافق مع الولايات المتحدة الاميركية برئاسة دوايت ايزنهاور، ان يوصل قائد الجيش الى رئاسة الجمهورية، فأمن له الغطاء العربي والاقليمي والدولي، وبعد خمسين عاما
يزكي الرئيس المصري حسني مبارك العماد سليمان الذي نال تاييد سوريا له، ولم تمانع فرنسا من انتخابه، الا ان الادارة الاميركية تحفظت عليه لانه على علاقة جيدة مع «حزب الله» ويقوم بالتنسيق مع المقاومة، وهي ترغب بوصول مرشح من «ثورة الارز» كما اعلن الرئيس جورج بوش صراحة امام قادة 14 اذار الذين استقبلهم في البيت الابيض وحثهم على انتخاب هذا المرشح ولو بالنصف زائداً واحداً، لكن هؤلاء لم يتمكنوا من ذلك، لانهم لا يملكون هذا العدد، ثم لان مثل هذا التوجه هو انتحار سياسي لهم واستدعاء للحرب الاهلية، مما اضطرهم الى القبول مرغمين بالعماد سليمان كمرشح توافقي، بعد ان طرح الرئيس نبيه بري مقولة، ان لا الموالاة قادرة على ايصال مرشحها ولا المعارضة، لان كلا منهما لا يملك اكثرية الثلثين، ولنفتش على مرشح توافقي كما قال الرئيس بري، فظهر احدهم في لائحة المرشحين الستة للبطريرك نصرالله صفير وهو الوزير السابق ميشال اده، فايدته المعارضة ورفضه سعد الحريري وبعض حلفائه، كما سقط اسم حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وهو يتمتع بمواصفات المرشح التوافقي وكانت الذريعة ضده انه بحاجة الى تعديل الدستور،بالرغم من وجود فتاوى قانونية تؤكد ان موقعه الوظيفي لا يصنفه موظفاً.
ومع سقوط لائحة اسماء بكركي بعد استبعاد مرشحي الموالاة والمعارضة، لم يبق في التداول سوى اسم العماد سليمان الذي كانت تعتبره بعض اوساط المعارضة انه مرشحها غير المرئي وانه حصانها الاساسي في الانتخابات الرئاسية لكنها كانت ترى صعوبة في انتخابه تتعلق بتعديل الدستور الذي لا يوافق عليه البطريرك صفير، لكنه اشترط القبول به اذا كان لانقاذ لبنان، وقد اعلن ذلك في موقف لافت، ففتح الباب امام العماد سليمان، ووضع الفريق الحاكم في موقع صعب، والذي اضطر مرغماً الموافقة على ترشيح قائد الجيش، بعد ان شغر منصب رئاسة الجمهورية مع انتهاء ولاية الرئيس اميل لحود، وقد شكل قبول الموالاة مفاجأة للمعارضة التي اعتبرت ان هذا الترشيح هو للايقاع بينها وبين الجيش، ولايجاد شرخ مع العماد ميشال عون من خلال رفضه الترشيح وحشره امام المسيحيين عموما ومؤسسة الجيش خصوصاً، الا ان رئيس «التيار الوطني الحر»، فاجأ ايضاً قوى 14 شباط واعلن تأييده للعماد سليمان مع رئيس حكومة توافقي، وسحب بذلك ما كان يحضر له من فخ، بانه لن يقبل بمرشح غيره، وانه مستعد لتدمير لبنان اذا لم يصل هو الى رئاسة الجمهورية، فكان رده انه يريد الجمهورية لا رئاستها، واذا خير بين الجمهورية والرئاسة فيكون الى جانب الاولى، وقد صفع رده قوى السلطة واسقط من يدهم ورقة تضليل للرأي العام، والترويج السياسي والاعلامي ان عون صاحب شعار «انا او لا احد».
ومع قبول عون ترشيح سليمان، وتأييد «حزب الله» لموقف حليفه، ودعم المعارضة لهذا الخيار، لم يعد باستطاعة المولاة التراجع وباتت امام امر واقع مفروض عليها، واعترفت ان سليمان هو مرشح المعارضة وصديق سوريا وحليف المقاومة، لكن مقابل موافقتها على ترشيحه، يتوجب على المعارضة ان تذهب فوراً الى انتخابه دون المرور باتفاق حول حكومة الوحدة الوطنية وقانون الانتخاب، لكن فك الارتباط هذا، رفضته المعارضة واصرت على السلة المتكاملة التي جاءت بالمبادرة العربية، التي سمت سليمان مرشحاً توافقياً، وتشكيل حكومة وحدة وطنية واقرار قانون انتخاب.
تأخر تنفيذ هذه المبادرة ستة اشهر، وحاول الامين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى تقريب وجهات النظر بين الطرفين وتدوير الزوايا، وكان يصطدم بتشكيل حكومة الوحدة الوطنية، وبعقدة قانون الانتخاب الذي تم الخلاف على تفسيره وهو اعتماد القضاء وفق قانون انتخابات عام 1960 او حسب التقسيمات الادارية المعمول بها بفصل الاقضية المدموجة في القانون المذكور.
اخذ الجدل ستة اشهر بعد الفراغ في رئاسة الجمهورية، وكان استهلك عاماً من الصراع السياسي، وتم تضييع فرص الحل لاكثر من مبادرة ومسعى واسلوب حوار، الى ان انعقد مؤتمر الحوار الوطني في الدوحة، بعد ان كاد لبنان يدخل في حرب اهلية، وكان ينجو منها لان الاطراف الخارجية لا تريد تفجير الوضع وكل طرف له اسبابه ومصالحه، في حين ان القوى الداخلية اللبنانية، كانت تتحرك وفق البوصلة الخارجيةـ التي كانت تؤشر الى ان لا قرار عربي واقليمي ودولي باندلاع اقتتال بين اللبنانيين، وان المعارك المتنقلة التي حصلت، ما هي الا نتيجة للاحتقان السياسي، ولانسداد افق الحل، كما ان التحرك العسكري الذي قامت به المعارضة كان في اطار استعراض القوة وتغيير مسار اللعبة، وتحريك «الستاتيكو» الذي فرضته الادارة الاميركية لتقطيع مرحلة الانتخابات الرئاسية الاميركية، فردت المعارضة عليه بقلب المعادلة السياسية التي عجلت بالحل الذي سارعت قطر الى رعايته، وتمكنت من خلال علاقاتها العربية والاقليمية والدولية، من ان تخرج باتفاق مرتكز على المبادرة العربية، عرف بـ«اتفاق الدوحة» ولم يكن بديلاً عن اتفاق الطائف بل مستند اليه، لان الظروف الداخلية لا تسمح الان بحصول تعديل او تغيير في اتفاق الطائف، الذي رسم موازين قوى، كما ان المعارضة لم يكن هدفها تغيير هذا الاتفاق، بل تطبيق الدستور الذي يسمح بالشراكة ويؤكد على الديمقراطية التوافقية، التي اعطت القرار لمجلس الوزراء الذي اقر الطائف بضرورة ان يشكل من كل القوى السياسية والشرائح الطائفية المكونة للاجتماع اللبناني السياسي والطائفي.
تمكن اتفاق الدوحة من ان يقفز فوق انتخابات رئاسة الجمهورية، وعالج نقطتي الخلاف في تشكيل الحكومة واعطاء المعارضة الثلث الضامن وقانون انتخابات العام 1960، وتم تأجيل البحث بسلاح المقاومة الى طاولة حوار يرعاها ويديرها رئيس الجمهورية، على ان يمنع اي طرف من ان يلجأ الى السلاح واستخدام العنف في الصراعات السياسية او لفرض رأيه.
اخذت المعارضة مطلبيها، وفكت فوراً الاعتصام وازالت الخيم من ساحة رياض الصلح، كما فتح الرئيس بري قاعة مجلس النواب لانتخاب المرشح التوافقي العماد سليمان، وهذا ما حصل وتم تطبيق البند الاول من اتفاق الدوحة، وحصلت جلسة الانتخاب بحضور عربي واقليمي ودولي لم تشهده انتخابات رئاسة الجمهورية سابقة، مما اعطى «اتفاق الدوحة» غطاءاً ودعماً كبيراً، هو نفسه الذي امّن انتخاب قائد الجيش الذي دخل الى القصر الجمهوري بدعم قلّ نظيره لم يحصل عليه اي رئيس للجمهورية، وقد شكل انتخاب سليمان اطمئناناً للبنانيين الذين ابعدوا عنهم كأس حرب اهلية كانت على مرمى حجر منهم.
وكما ان انتخابه كان توافقياً، فان خطاب القسم الذي يطرح فيه الرئيس رؤيته وليس برنامجه، لان النظام في لبنان ليس رئاسياً، فان ما ورد فيه عكس صورة الرئيس التوافقي، على خلاف خطاب القسم للرئيس اميل لحود قبل عشر سنوات، الذي كان اشبه بخطاب التحدي، لان انتخابه في تلك المرحلة كان رداً على الطبقة السياسية الفاسدة، فتقدم بخطاب اصلاحي شديد القسوة على الطبقة السياسية لانقاذ الوضع بعد ان ضرب الفساد الادارة وتغلغلت المحسوبية، وكان المواطنون يشكون من دولة المزرعة ويتوقون الى دولة المؤسسات وتطبيق القانون، ومحاسبة الفاسدين والسارقين ومعاقبتهم، بعد ان بدأت تلوح ازمة اقتصادية واجتماعية خانقة.
كان خطاب القسم للحود حادا رادعاً مباشراً، في حين جاء خطاب سليمان، يواكب المرحلة الحالية، وهي انتشال لبنان من ازمته، فكان المضمون متوازناً قليل الوعود، يشير الى الازمات بالاسم ويتحدث عن حلول لها بالحوار، ويدعو الى تغليب دور الدولة، وقد اعطى في خطابه لكل الاطراف، فلم يتراجع عن المحكمة الدولية بشأن اغتيال الرئيس رفيق الحريري، فطمأن قوى 14 شباط، واشار الى المقاومة على انها حققت انجازات وطنية كبرى في التحرير والتصدي لإسرائيل ويجب الاستفادة منها في استراتيجية دفاعية، فلاقى كلامه هذا ارتياحاً لدى قيادة المقاومة التي خبرته في قيادة الجيش ولا حاجة الى من يعرفها على موقفه الذي تعتبره امتداداً لعهد لحود الذي استطاع ان يحول الجيش الى جيش مقاتل الى جانب المقاومة بوجه العدو الاسرائيلي.
كما لم يغب عن خطاب الرئيس الجديد للجمهورية العلاقة مع سوريا، فتحدث عنها بإيجابية، وانها سترسو على العلاقة المميزة والندية، وقد توقفد بعض المراقبين عند كلمة النديه واعتبروا استخدامها من قبل سليمان انها ترضي الفريق الحاكم وتوجهه السياسي وتزعج سوريا، التي لم تتوقف عندها، اذ رحبت بإنتخابه واتصل الرئيس بشار الاسد به مهنئاً، ووجه له دعوة لزيارة دمشق، بعد ان كان اوفد وزير الخارجية وليد المعلم لحضور جلسة الانتخاب وتقديم التنهئة للرئيس المنتخب في اشارة تأييد كبيرة له، حيث لم تنقطع الاتصالات بين الاسد وسليمان منذ خروج القوات السورية من لبنان، ولم تتأخر سوريا في تقديم الدعم للجيش اللبناني اثناء معارك مخيم نهر البارد، كما ترافق التأييد السوري للعهد الجديد مع ترحيب ايراني بإنتخاب سليمان سواء بحضور وزير الخارجية منو شهر متكي او بالاتصال الذي اجراه الرئيس محمود احمدي نجاد بالرئيس سليمان وتأكيد دعمه له.
ومع هذا الحجم من التأييد بإنتخاب سليمان الذي حضره عشرة وزراء خارجية عرب واجانب وممثلي منظمات عربية ودولية، فان عهده على المحك، سواء في تطبيق خطاب القسم او تحقيق التوافق، الذي اهتز خلال الثلاث سنوات الماضية.
ومع هذا الحجم من التأييد بإنتخاب سليمان الذي حضره عشرة وزراء خارجية عرب واجانب وممثلي منظمات عربية ودولية، فان عهده على المحك، سواء في تطبيق خطاب القسم او تحقيق التوافق، الذي اهتز خلال الثلاث سنوات الماضية.
وكل رئيس جمهورية عقد الامل عليه في احداث تغيير ونقلة نوعية، وتحقيق دولة المؤسات والقانون، وهذا الرهان حصل مع كل العهود، وقد حاول كل الرؤساء تطبيق ما وعدوا به واحراز تقدم من خلال بعض الانجازات السياسية والامنية والادارية والاصلاحية، الا انهم كانوا يصطدمون بالواقع السياسي القائم على الطائفية، وفي اقتسام الطوائف لمؤسسات الدولة، بحيث يصبح الاصلاح صعباً لا بل مستحيلاً، مع النظام الطائفي الذي تتغلب فيه المحاصصات على الكفاءات والمغانم على حقوق المواطنين والدولة.
ففي خطاب القسم لم يطلق الرئيس سليمان وعوداً كما فعل الرؤساء السابقون للجمهورية، لانه ما يريد ان يعمله في هذه المرحلة هو الحفاظ على الجمهورية وترسيخ الامن ومنع انفجار حرب اهلية وهذه مهمة نجح فيها الجيش الى حد كبير، ولكن الرئيس التوافقي تلقى اول صدمة، وهو غير مسؤول عنها بإختيار الأغلبية النيابية لفؤاد السنيورة رئيساً للحكومة، وهو ملزم القبول به وفق الاستشارات النيابية الملزمة، التي نص عليها الدستور، حيث لم يأت رئيس الحكومة توافقياً على صورته، فلم يحظ السنيورة بتأييد المعارضة التي رأت فيه استمرارا للأزمة، وتعطيلاً لإتفاق الدوحة، وسيكون لذلك تأثير كبير على انطلاقة العهد.)ءó.
واذا كان العماد سليمان وهو ثالث قائد للجيش يصل الى رئاسة الجمهورية، فان السؤال الذي يتبادر الى المواطنين هو، هل وصول عسكري يعني حكم العسكر، لا سيما وان هناك تجربة من خلال تدخل المكتب الثاني (مخابرات الجيش) في الشؤون السياسية والعامة، ايام عهد الرئيس فؤاد شهاب، وكذلك فان عهد الرئيس لحود عرف تدخل ضباط في الادارات، لتحريكها ومنع الفساد فيها، الا ان معارضي لحود اعتبروا ان ما يحصل هو تركيب نظام امني.
فهل سيُطبع عهد العماد سليمان، بطابع عسكري او امني؟
ان الممارسة هي التي ستحكم على ثالث قائد للجيش يصل الى الحكم بالانتخاب وليس بالانقلاب، وهذه ميزة للبنان.
Leave a Reply