لم ينتظر المرشح الرئاسي الافريقي الاميركي «الواعد» باراك اوباما طويلاً بعد حصوله على العدد الكافي من المندوبين الانتخابيين للفوز بترشيح حزبه الديموقراطي، قبل الانتقال الى مقر المؤتمر السنوي لـ«اللجنة الاميركية – الاسرائيلية للشؤون العامة» (ايباك) للادلاء بـ«خطاب القسم» المبكر امام اكبر واشد اللوبيات اليهودية الاميركية نفوذاً وتأثيراً في الانتخابات الاميركية.
يطمح اوباما الذي تفصله عن البيت الابيض فسحة من «الامل التاريخي» النادر بأن تكون اميركا الغارقة في مشاكلها الاقتصادية الخطيرة وحروبها المكلفة في الخارج اصبحت على اهبة الاستعداد لطي تلك الصفحة من التاريخ العنصري المديد وايصال اول ملون الى سدة الرئاسة في بلد ديموقراطي غربي للمرة الاولى في التاريخ.
غير ان اوباما الذي شكل صعوده وامتلاكه لميزات قيادية ورؤية تنسجم مع تطلعات الاجيال الاميركية الشابة، يدرك ان دون وصوله الى البيت الابيض عقبات غير سهلة على الاطلاق، يتطلب تجاوزها «ميكيافيلية» سياسية بدت حتى الامس القريب بعيدة عن شخصية هذا الافريقي الاميركي من أب كيني وام بيضاء يقال ان نسبها يعود الى توماس جيفرسون احد الرواد الاوائل للاستقلال الاميركي.
ابرز تلك العقبات هو الانقسام الحاد في صفوف الحزب الديموقراطي والذي عبرت عنه المعركة التمهيدية المضنية التي خاضها ضد السناتور هيلاري كلينتون التي المحت في خطاب شبه الهزيمة الى تمثيلها لـ81 مليون ناخب اميركي ايدوها في تلك الانتخابات سيكون على اوباما اخذهم في الحسبان في عملية اختياره لاركان ادارته اذا ما قدر له ان يفوز بالرئاسة في نوفمبر القادم، ويبرز اختياره لنائب الرئيس في المقدمة، حيث لم تعبر السناتور كلينتون عن «زهدها» في هذا المنصب اذا تم عرضه عليها من قبل غريمها اوباما.
واذ اختار اوباما سلوك طريق المجاملات تجاه منافسته واصفاً اياها بالمرأة التي يفخر بخوضه المعركة التمهيدية ضدها وبتمثيلها لقيم اميركية عالية، في محاولة لكسب مؤيديها خصوصاً من النساء وناخبي الريف الاميركي، الا ان كلينتون بقيت خلف متراس المعركة الانتخابية ولم تلق «سلاحها» الانتخابي بانتظار الجلاء الكامل للغبار الذي احدثته هذه المعركة غير المسبوقة في تمهيديات الرئاسة الاميركية منذ اكثر من اربعة عقود، عندما كاد المرشح الديموقراطي روبرت كيندي ان يعيد تجربة انتخاب اول كاثوليكي للرئاسة التي كان بطلها شقيقة المغتال جون اف. كيندي وعاد هو ليقع صريع هذه المحاولة خلال حملته الانتخابية في العام 1968، على يد الفلسطيني الاميركي سرحان بشاره سرحان.
على انه ليس من المبالغة في شيء القول ان ظهور اوباما امام مؤتمر «ايباك» اليهودية يعدل كل جهوده الانتخابية ويشكل اكثر المحطات دقة وحساسية في رحلة الوصول الى البيت الابيض. يرجع ذلك الى النفوذ الكبير الذي تمتلكه هذه المنظمة اليهودية القوية في ترجيح كفة اي من المرشحين لأسباب تبدأ بقدراتها المالية الهائلة ولا تنتهي بشبكة تحالفاتها مع شرائح انتخابية مسيحية اصولية تصل الى حدود الاندماج العقائدي والاستحواذ على انماط تفكير و«ايمان» تلك الشرائح بـ«الوعد التوراتي» ليهود العالم بدولة يهودية في ارض فلسطين.
«ان ما بين اسرائيل والولايات المتحدة وعد لا ينكسر اليوم وغداً والى الابد..». هكذا استهل اوباما «خطاب القسم» امام «ايباك» ليصل ذروته بالتأكيد على «قداسة» امن اسرائيل و«عدم قابليته» للتفاوض.
هذا «الوعد» لم يكن قصراً على اوباما، فأكدته هيلاري كلينتون في المناسبة ذاتها «الولايات المتحدة تقف الى جانب اسرائيل الآن والى الابد..». بدا كل من اوباما وكلينتون كمن يؤدي صلاة. في «محراب ايباك» على نية الوصول الى البيت الابيض.
واذا كانت نبرة كلينتون ومواقفها تجاه «القضية اليهودية» ليست بالجديدة وهي السيدة الاولى السابقة والسناتور التي لها في ذمة الصهاينة مواقف بزّت فيها عتاتهم، غير ان اوباما بدا في خطابه اقرب الى «المؤمن» الذي يسعى الى نيل «البركة الالهية» اكثر منه السياسي الذي يسعى الى اقناع شريحة هامة من الناخبين اليهود الاميركيين ببرامجه الاقتصادية وتوجهاته السياسية.
كان اوباما مدركاً سلفاً لما يريد عتاة «الايباك» سماعه فوظّف كل بلاغته الخطابية في رحابها وسلك خطابه مسلكاً «ذكياً» حينما اوحى برغبته في دعم جهود اسرائل لاطلاق محادثات السلام مع سوريا، دون «ارغامها» على الجلوس الى طاولة المفاوضات مشترطاً التنفيذ الكامل لقرار مجلس الامن 1701 في لبنان «وتوقف سوريا عن نشاطها الارهابي» معتبراً ان الوقت حان لأن ينتهي هذا التصرف الطائش». دون ان ينسى تبرير الغارة التي قامت بها اسرائيل ضد المنشأة السورية في ايلول الماضي لانهاء التهديد السوري المزعوم بالحصول على اسلحة دمار شامل.
باراك اوباما سيكون بالتأكيد رئيساً مختلفاً في التاريخ الاميركي اذا قيض له ان يحقق هذا «الفتح العظيم» بوصوله الى البيت الابيض. غير انه لن يختلف عن اي رئيس اميركي سابق منذ قيام دولة اسرائيل، من حيث ايمانه بـ«الوعد الابدي» للشراكة بين اسرائيل واميركا والذي يبقى السمفونية المكررة التي يعزفها كل الطامحين للوصول الى «جنة» الرئاسة الاميركية ويكون شهودها ومستمعوها عرابو الشراكة الاميركية – الاسرائيلية وصناع السياسة الخارجية الذين لا يقبلون «شريكاً» إلا اذا اتقن العزف في محاريب المنظمات اليهودية الاميركية وعلى رأسها «ايباك» التي وقفت وصفقت بقضها وقضيضها لهذا المرشح المقبل على البيت الابيض فوق اجنحة التغيير الذي يدغدغ احلام الملايين من الاميركيين.
اما بالنسبة الى العرب وقضاياهم وابرزها القضية الفلسطينية فإن اوباما لم يكن قادراً مثله مثل اي مرشح اميركي للرئاسة سوى على الحديث عن «تسهيل حركة تنقل الفلسطينيين وتحسين الظروف الاقتصادية في الضفة الغربية (ليس في غزة!) والتوقف عن بناء المزيد من المستوطنات» .. لكن «امن اسرائيل مقدس الى ابعد الحدود.. انه امر لا يتم التفاوض حوله».
خطاب اوباما امام «ايباك» كان بلا ادنى شك «نكسة» لآمال العرب الاميركيين في يوم الخامس من حزيران 2008. في الذكرى السنوية الواحدة والاربعين لـ«نكسة حزيران» عندما «تحطمت الطائرات عند الفجر».
هكذا «حطم» اوباما آمالنا فجر الخامس من حزيران!
Leave a Reply