إعلان رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس الأسبوع الماضي عن إستعداده لبدء حوار مع حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وفق المبادرة اليمنية، ودون شروط مسبقة، وصولا إلى إقامة حكومة وحدة وطنية، كان بمثابة تراجع عن موقف إتخذه الرجل بعدم فتح حوار مع من كان يعتبرهم «إنقلابيون». إلا إذا تراجع هؤلاء عن موقفهم وأعادوا الأمور إلى ما كانت عليه في غزة قبل إنفصالها عن الضفة الغربية. لكنه تراجع على كل حال طيب لاقى إستحسانا لدى الفلسطينيين على مختلف مشاربهم وتوجهاتهم، إذ لا يعقل أن يحقق هذا الشعب تقدما في المسار السياسي أو في مسار المقاومة دون أن يكون موحدا في وجه الغطرسة الصهيونية ومن ورائها الولايات المتحدة التي يتسابق مرشحوها الرئاسيون لإعلان ولائهم لإسرائيل، كان آخرهم باراك أوباما الذي ما إن دنى من دخول البيت الأبيض حتى أعلن تأييده لإبقاء القدس موحدة وعاصمة أبدية لإسرائيل.
ثمة من يقول إن عباس حقق تقدما ملموسا في محادثاته مع أولمرت على طريق إعلان قيام الدولة الفلسطينية قريبا. ما جعله يسرع الخطى نحو إعادة توحيد الفلسطينيين لمجابهة إستحقاق على هذه الدرجة من الأهمية، فالفلسطينيون لم يسبق لهم أن حكموا نفسهم بنفسهم أو أقاموا دولة مستقلة على مدى التاريخ. كان يمكن لعباس أن يستفرد بـ«شرف» كهذا، لولا أن حكمته قادته إلى معادلة قاسية، لا أحد اقترب منها أو حاول تفكيك رموزها إلا ضعف قلبه ووهنت عزيمته وارتجفت منه الأطراف، إذ كيف لزعيم مهما علا شأنه وأحبه الناس ووثقوا بوطنيته، أن يقدم على توقيع معاهدة مع إسرائيل يتخلى بموجبها عن أربعة أخماس الوطن الفلسطيني، أو يغضّ الطرف عن حقوق أربعة ملايين من اللاجئين وآلامهم وتضحياتهم على مدى ستين عاما في مخيمات البؤس والشتات، أو يراهن على مستقبل زهرة المدائن العربية والإسلامية، القدس الشريف – التي بارك الله فيها وما حولها.
أراد عباس من وراء قراره إعادة الوحدة للصف الفلسطيني أن يتحمّل الجميع قرارا أكثر صعوبة وإيلاما، هو توقيع صلح تاريخي مع الدولة العبرية، بما يحمله ذلك من تناقضات والتباسات، فذلك أشبه بتجرع كأس من الحنظل، رفض تجرعها قادة فلسطينيون وعرب قبل عباس، بما في ذلك الراحل عرفات برغم ما كان يمثلّه من قيمة في أوساط الشعب الفلسطيني، آثر الرفض في آخر لحظة أمام الرئيس الأميركي آنذاك كلينتون برغم ضغوط هائلة مورست عليه وتهديدات بإسقاط نظامه، حينها عاد عرفات إلى أحضان شعبه، وكانت أول محطة إستقبال له في غزة، حيث رفعه الفلسطينيون على الأكف، ثم ما لبث أن حاصره الجيش الإسرائيلي في مقر إقامته برام الله، ودارت حرب حينذاك، اصطلح على تسميتها الإنتفاضة الثانية، فاضت فيها أرواح مئات الشهداء إلى ربهم، وامتلأت السجون الإسرائيلية بالمناضلين، واستخدم فيها سلاح الجو لأول مرة في تدمير مقرات السلطة، وهدمت مخيمات على رؤوس ساكنيها، وقطعت أوصال المدن الفلسطينية إرباً، وأقيم حول الفلسطينيين جدار عزل عنصري كأنهم في سجن كبير.
ثم توالت الأحداث وكأنها هي التي تقود سفينة التيه الفلسطيني في هذا البحر من الظلم والظلمات، ليستقر ربابنتها مكبلّون بأصفاد ساهموا أنفسهم بصناعتها، فلم يعد أمامهم سوى واحد من طريقين: أما القبول خانعين بتسوية رثة يمليها عليهم أعداؤهم، واما باستمرار المقاومة تحت النار، ويبدو أن كلا الإتجاهين لم يعد صالحا للفلسطينيين، فلا هم قادرون على المضيّ في تسوية مقيتة، ولا مقاومة باهظة الأكلاف، وبين هذا وذاك تبقى القضية معلقة في رقاب العرب، ويبقى الفلسطينيون هم من يتحملون أوزارها، فهل يا ترى العرب مسؤولون عن تحرير فلسطين، أم الشعب الفلسطيني مسؤول عن الدفاع عن الأمة العربية؟
Leave a Reply