فجأة عادت مزارع شبعا اللبنانية المحتلة إلى واجهة الإهتمام لتسرق الأضواء من معضلة التأليف الحكومي التي يتخبط فيها لبنان منذ تكليف الرئيس فؤاد السنيورة قبل نحو ثلاثة أسابيع بتأليف الحكومة اللبنانية الجديدة وفقاً لتفاهمات إتفاق الدوحة الذي أنهى الإحتقان السياسي (أو هكذا يفترض) لكنه لم يشمل بـ«عطفه» حتى الآن التوترات الأمنية والحروب الإعلامية التي يخوضها أطراف الإتفاق وكأنه لم يحصل.
والحديث المتجدّد عن مزارع شبعا إفتتحته هذه المرة الدولة المحتلة من باب العمل على تطبيق القرار الدولي 1701 الذي أنهى حرب تموز العام 2006.
وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس مرّرت خلال زيارتها اللبنانية «المفاجئة» الشروط الإسرائيلية إلى المسؤولين اللبنانيين والمتمثلة بمناقشة مسألة المزارع «في إطار مفاوضات سلمية شاملة ومباشرة مع لبنان» حسب رغبة رئيس الوزراء الإسرائيلي المترنح والمهدّد بالسقوط في الاسابيع القليلة القادمة.
وفي حين تسلط الأضواء على معضلة التأليف الحكومي من باب الخلاف بين أطراف إتفاق الدوحة على توزيع الحقائب «السيادية» يبدو واضحاً أن الخلاف أبعد من هذه المسألة ويتعداها إلى مرحلة ما بعد التأليف وصدور البيان الوزاري للحكومة العتيدة الذي سيتضمن، فيما يتضمن، بنداً يدعو إلى الإلتزام اللبناني التام بحذافير القرار الدولي رقم 1701 ونقاطه السبع التي أشارت إلى العمل على إيجاد حل لمسألة المزارع عبر وضعها تحت السيادة الدولية بانتظار ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا.
وينظر أطراف المعارضة، خصوصاً «حزب الله» إلى العروض الأميركية والإسرائيلية بالإستعداد للتفاوض حول إنهاء مسألة المزارع بصفتها عروضاً تتوخى نزع الذرائع التي يتسلح بها الحزب للإبقاء على سلاحه وتضمين البيان الوزاري بندا يدعو إلى حق لبنان ومقاومته بالعمل على تحرير مزارع شبعا من الإحتلال، (بعد أن تكون قضية الأسرى قد طويت، إذا سارت صفقة التبادل وفق المواعيد المعمول عليها لتنفيذها مع نهاية الأسبوع القادم، كما أفادت كل الإشارات الصادرة عن طرفي الصفقة «حزب الله» والحكومة الإسرائيلية.
وفي حال نجحت جهود وضع المزارع تحت إشراف القوات الدولية وشمولها بالقرار الدولي 1701 بواسطة مفاوضات غير مباشرة على خلاف ما يرغب به إيهود أولمرت الذي قدم للبنانيين «نموذجي» مفاوضاته مع الفلسطينيين والسوريين، فسوف يقتصر البيان الوزاري للحكومة إذا قدر لها أن تبصر النور في المدى القريب فيما يخص قضية سلاح المقاومة، على بند يتعلق ببحث إستراتيجية دفاعية تضع هذا السلاح في إطارها وبالتنسيق والتكامل مع سلطة الحكومة اللبنانية، وهو ما تعمل الإدارة الأميركية على تحقيقه في نهايات عهدها كتعويض عن إخفاقها في دعم الحكومة اللبنانية ولإستعادة توازن سياسي إختل لصالح قوى المعارضة وعلى رأسها «حزب الله» بعد العملية العسكرية التي قادها وأسقط خلالها ميدانياً مواقع قوى 41 آذار في العاصمة اللبنانية ولكنها لم تنجز للحزب وحلفائه نصراً سياسياً تاماً، وجاء إتفاق الدوحة ليعيد عربة الصراع إلى السكة السياسية، رغم إستمرار التوترات الأمنية و«دوزنتها» على الأرض بما يكفل إبقاء ضغوط متبادلة كافية لعدم التفلت من نتائج الإتفاق الذي دعت له معظم القوى المحلية والعربية والإقليمية والدولية بطول العمر لكنها تضمر له غيرما تبدي وتتعاطى مع متوجباته كأمر واقع بانتظار ما ستؤول إليه الأزمات الإقليمية، وفي مقدمتها الملف النووي الإيراني، وإتجاهاتها سلماً أم حرباً.
وحتى الآن يبدو ظاهراً أن أزمة التأليف الحكومي تقف عند عقدة الجنرال ميشال عون الذي يصر على «حقيبة سيادية» من خارج «روح» إتفاق الدوحة ونصوصه التي اعتمدت منح وزارتي الأمن السياديتين (الدفاع والداخلية) إلى رئيس الجمهورية التوافقي العماد ميشال سليمان على ان تذهب الوزارتان الباقيتان (الخارجية والمالية) إلى فريقي المعارضة والموالاة على قاعدة حقيبة لكل منهما.
هذه الصيغة لا تروق للجنرال عون الذي ذهب إلى الدوحة تحت ضغط الإنفجار الأمني الذي كان يهدد بنشوب حرب مذهبية والذي بات يعتبر بكل مقاييس الربح والخسارة الخاسر الأكبر بعدما أنهى إتفاق الدوحة أحلامه الرئاسية واقتصرت نتائج جهوده المديدة لإلغاء «التهميش المسيحي» على فوز جزئي تمثل بدائرة إنتخابية مسيحية في محافظة بيروت سيكون لحلفائه الأرمن الحاليين الكلمة الفصل في إنتخاب نوابها الخمسة. لكن الجنرال يدرك أن «أم المعارك» الإنتخابية ستكون في إنتظاره في منطقتي المتن وكسروان المسيحيتين والتي سيكون لحليفه السابق ميشال المر الكلمة الفصل في إحداهما (المتن) وسوف يحضر ظل الرئيس الجديد و«ملائكته» في باقي المناطق المسيحية (كسروان خصوصاً) وهذا هو مبعث إرتباك الجنرال وإكثاره من الإقتراحات التي أدى أحدثها الداعي إلى إعادة النظر في صلاحيات رئيس الحكومة إلى إستنفار وإستنكار من يفترض أنهم «حلفاؤه» في المعارضة مثل الرؤساء عمر كرامي وسليم الحص ونجيب ميقاتي، وإلى وعظ الرئيس بري له بأن «المنطلقات الصادقة» لا تكفي لتحقيق تغيير ليس هذا هو أوان الحديث فيه ولكأن بري أراد القول إن الطريق إلى جهنم الخلافات اللبنانية ربما تكون معبدة بالنوايا الحسنة للجنرال عون معيداً تذكيره بالطائف الذي يعلم الرئيس بري أن القليل من الود يجمع بينه وبين جنرال التمرد على ذلك الإتفاق الذي أنهى الحروب اللبنانية وأودى بالجنرال إلى منفى طويل في العاصمة الفرنسية.
ليس هذا وحسب، بل إن الرئيس بري الذي يمتلك حساسية خاصة تجاه مضادات الطائف لإدراكه بأن بدائله غير متوافرة وتعني في أفضل الأحوال الدخول في نفق صراعات متجددة لبنان بغنى عنها، قد حسم «الجدل السيادي» المتعلق بالوزارات الأربع معتبراً أن الحديث حولها إن هو إلا «وهم لبناني» موجود لدى البعض لأن ما قبل إتفاق الطائف وإستئثار فئة لبنانية بالسلطة التنفيذية، ليس كما بعده، وبعدما وضعت تلك السلطة داخل مجلس الوزراء وبات كل وزير «ملك» حتى لو كان وزير دولة أو بلا حقيبة «سيادية» أو خدماتية.
والحال أن الرئيس بري الذي بدا بعد زيارته الاسبوعية الأربعائية المستعادة إلى القصر الجمهوري حريصا أشد الحرص على الرئيس سليمان والتحذير من «تربيحه جميل» الوزارتين «السياديتين»، وهو الرئيس التوافقي الذي لم يكن لينتخب لو جاء من صفوف 41 آذار او 8 آذار، حاول تحويل إهتمام «حليفه» الجنرال إلى حقيبة ملأى بالسيادة «لأنها تشمل البحر والبر والجوّ» وهي حقيبة الإتصالات، واصفا إياها بـ «إمرأة القيصر» وملمحاً إلى إستعداده وإستعداد المعارضة لعقد قرانها على الجنرال بوصفها عروساً أكثر سيادية من تلك العرائس «الشمطاء» التي يهواها الجنرال ويهدّد بعدم الدخول في القفص الذهبي الحكومي إذا ما حال العُذّال بينه وبين إحداها.
بعد إنتخاب العماد سليمان رئيساً وعد الجنرال عون بالعمل على الدخول بقوة إلى الحكومة الأولى في العهد الجديد، للمشاركة في إستعادة المسيحيين من «التهميش» اللاحق بهم، غير أن وعده هذا أخذ يتحول إلى وعيد بالطلاق مع الحكومة المنتظرة وسط أصوات تطييب الخاطر من حلفائه والتي «تعطيه من طرف اللسان حلاوة» على حدّ وصف إحدى نشرات الأخبار في محطة فضائية تمارس الإعجاب بجنرال الرابية على طريقتها المميزة.
ووعيد الجنرال آخذ بالتبلور في صيغ مرتجلة لتحالفات مسيحية مرعية منه لا تفعل إلا أن تزيد الوضع المسيحي «المهمش» إنقساماً وتهشيماً.
أما النواة الصلبة للمعارضة والمتمثلة بـ«حزب الله» فهمومها باتت أكبر من هم الوفاء للجنرال ومواقفه وهي وإن أظهرت كل الدعم لمطالبه حتى الآن، غير أنها في ظلّ التطورات الإقليمية والدولية المتسارعة، من جبهة المفاوضات غير المباشرة بين العدو الإسرائيلي والحليف السوري، إلى التهدئة في قطاع غزة وتداعياتها، وإنجاز تحرير الأسرى المرتقب وتجلياته دون أن ننسى ما ينتظر العراق من إتفاقات سياسية وأمنية «تاريخية» بين حكومته ورعاتها الأميركيين، وصولاً إلى «وعد شبعا» وإغراءاته، سوف تضطر عاجلاً أم آجلا إلى «الإعتذار» من جنرال الرابية عن إضطرارها للتفرغ إلى قضايا أكبر وأشمل من «حقيبة سيادية» هنا وأخرى خدماتية هناك، وقد تبلغه بكل تهذيب: ممّ تشكو «إمرأة القيصر» إذا حصل «النصيب»؟
Leave a Reply