الموضوع الأهمّ الذي لا يزال يحرّك الصراع بين الموالاة والمعارضة في لبنان، وبالتالي يهدد وحدة الوطن واستقراره، هو سلاح المقاومة. فعلى الصعيد الداخلي وخاصة فيما يعرف بقوى الموالاة هناك من يطالب بشدّة بنزع سلاح المقاومة بحجّة أن الحاجة اليه انتهت بانسحاب اسرائيل في عام 2000 ولأنّ الابقاء على هذا السلاح يثير مخاوف لدى بعض الشرائح الاجتماعية فضلا عن أنّه يتعارض مع طبيعة الدولة وعمل مؤسساتها.
بموازاة النشاط الداخلي بهذا الاتجاه هناك قوى خارجية، وفي طليعتها الولايات المتحدة الأميركية، حوافزها وجهودها في الضغوط لنزع سلاح المقاومة هي أقدم وأفعل بكثير من الحوافز والجهود الداخلية جميعا. ففي ضوء اتفاق الدوحة وعرض مسؤولين في «حزب الله» البحث في مسألة سلاح المقاومة، من المفيد القاء الضوء على بعض العناصر الهامة لكيفية التعامل مع هذا الموضوع من منظار التطلّع الى المصلحة الوطنية في بناء لبنان موحّد مستقلّ وبصورة مجرّدة من أيّة اعتبارات سياسية ضيّقة غالبا ما تحرّكها هواجس طائفية أو مذهبية.
الحوافز المحلّية وحجج قوى الداخل، والتي تشارك في صنعها وانتشارها وسائل اعلامية فعّالة، تتمحور حول أن الابقاء على سلاح المقاومة يتنافى ومفهوم الدولة التي يجب أن تستأثر مؤسساتها بحمل السلاح وقرار استعماله وأنّ استمرار السلاح بيد فئة دون سائر المواطنين يهدّد وحدة المجتمع ويدفع الى الشرذمة والتصدّع في النسيج الاجتماعي. ويمكن أن نضيف الى هذا المنطق أنّ واجب الدفاع عن الوطن وشرف القتال من أجل سيادته واستقلاله ومصالح شعبه لا يجوز أن يكون حكرا على أية طائفة أو تجمّع بشري داخل المجتمع. ورغبة في تدعيم هذا المنطق والالحاح بضرورة التنفيذ، أي نزع سلاح المقاومة على وجه السرعة، يضيف ممثلو هذا الفريق أنّ الابقاء على سلاح المقاومة يتنافى وقرارات «الشرعية الدولية» ويعرّض لبنان لغضب وعقاب المجتمع الدولي.
انّ منطق الفريق الداخلي الذي يدعو الى نزع سلاح المقاومة، في المطلق وبصورة مجرّدة من أيّة اعتبارات أخرى، يشكّل حجّة مقنعة لا يمكن ضحدها أو تجاهلها. لكنّ معالجة سلاح المقاومة لا يجوز أن تقتصر على حجّة أن مؤسسات الدولة يجب أن تستأثر بحمل السلاح وضرورة الرضوخ للقرارات الدولية بصرف النظر عن أيّة اعتبارات أمنية أو وقائع سياسية هي غاية في الأهمّية بالنسبة لسيادة الوطن وأمنه وحياة مواطنيه.
فالسيادة في وجهها الداخلي هي الاستئثار بالحكم الذاتي وممارستها على الصعيد الدولي منوطة بالقدرة على الحفاظ على الحقوق والمصالح تجاه الدول الاخرى. القدرة على الدفاع عن الحقوق والمصالح هي مقياس السيادة بين الدول. لذلك وجب أن ندرك أنّه بقدر توقنا الى وطن سيّد مستقلّ، علينا العمل على بناء مجتمع ومؤسسات داخل الدولة باستطاعتها الدفاع عن هذا الوطن ودرء الاخطار التي تتهدده وكافة مواطنيه خاصة عندما يكون واضحا لدينا مصدر هذه الأخطار وجسامتها.
ليس في القانون الدولي حقّ أشد رسوخا من حقّ الدفاع عن النفس. ففي حين توافقت دول العالم جميعا على تحريم اللجوء الى القوّة كوسيلة لحلّ النزاع بين الدول في ميثاق الامم المتحدة، أقرّت استثناء وحيدا وهو حال الدفاع المشروع عن النفس. واذ يفرض الميثاق الأممي والقانون الدولي بعامة احترام حقوق وسيادة الدول جميعا فهو لا يفرض شكل حكم أو تبنّي مؤسسات معيّنة للدفاع عن السيادة والحقوق شرط أن لا يكون اللجوء الى القوّة، حتّى في حالات الدفاع المشروع عن النفس، مخالفا لقوانين الحرب وخاصة الانسانية منها. فللدول أن تتبنّى المؤسسات والخطط التي تشاء لكي تتمكّن من الدفاع عن أراضيها وشعوبها بصورة فعّالة. وهذا ما فعله لبنان ليس فقط ابّان الحرب الأهلية وانّما بعد انتهائها وبعد انتخاب ممثلين في السلطة التشريعية واختيار المسؤلين في السلطة التنفيذية التي في عهدتها الحفاظ على السيادة الوطنية بما فيها واجب تحرير الوطن من الاحتلال الاسرائيلي. فالقيّمون على السلطة التنفيذية وبخاصة الحكومات التي رأسها الرئيس رفيق الحريري، قبل وبعد الانسحاب الاسرائيلي عام 2000 كانوا يرون في المقاومة عنصرا أساسيا مكمّلا للسيادة الوطنية في الدفاع عن أرض الوطن وسيادة شعبه. وربما أمكن القول أنّ الفترة الممتدّة بين الأعوام 2000 و2005 هي الفترة التي كان فيها لبنان أشدّ اقترابا من ممارسة سيادة كاملة على أرضه بالنسبة لاسرائيل منذ تاريخ انشائها. ففي هذه الفترة استطاع لبنان الافادة من مياه ينابيعه بالرغم من معارضة وتهديدات اسرائيلية متكررة، وكذلك تمكّن لبنان الى حدّ بعيد من حماية أجوائه وأرضه ومياهه الاقليمية ومن تحرير معظم أسراه من السجون الاسرائيلية.
وبعد انتهاء الهيمنة وانسحاب القوّات السورية من الأراضي اللبنانية، جرت انتخابات نيابية صحبتها تحالفات، هي الأساس فيما أصبح أكثرية نيابية، كان محورها الحفاظ على المقاومة وسلاحها. حتّى أنّ البيان الوزاري لحكومة الرئيس السنيورة وصف بأنه بيان المقاومة المجيدة ونص صراحة بأنها حقّ وطني ويجب الحفاظ عليها. ففي أية لحظة أصبحت المقاومة وسلاحها تهديدا للسيادة الوطنية؟ ومتى أصبحت دولة ضمن الدولة وخطرا على السلم الأهلي؟ وما هي العوامل التي دفعت الى هذا التحوّل بالرأي والرؤية؟ هنا أودّ التركيز على عامل أساسي أعتبره المحرّك الأكثر فاعليّة، ان بصورة مباشرة أو غير مباشرة، في الضغوط الخارجية والداخلية لنزع سلاح المقاومة.
ما من طرف عانى ويعاني من سلاح المقاومة وثقافتها ويرى في هذا السلاح وهذه الثقافة تهديدا وجوديّا له مثل اسرائيل. فاحتلالها للبنان كان السبب الرئيس في ظهور ونموّ المقاومة. وتدمير أحلام اسرائيل التوسعية وانهاء احتلالها للبنان كان بفضل المقاومة. كذلك اهتزاز قدرتها الردعية في ذهن الأعداء والأصدقاء على السواء, وما لذلك من أثر على استراتيجية اسرائيل السياسية والأمنية، سببه كذلك فعالية المقاومة اللبنانية. فعندما يقول شيمون بيريز وسواه من القادة الاسرائيليين أنّ حزب الله يشكّل خطرا وجوديا على اسرائيل فليس في قولهم كبير مبالغة. المعادلة هي في منتهى الوضوح والبساطة. هدف كلّ ظالم ومحتلّ أن يرسّخ لدى المظلوم ثقافة الهزيمة والاستسلام للأمر الواقع. وهدف كل مظلوم هو رفع الظلم واسترجاع ما استطاع من حقوق. ما من خطر على الظالم المحتلّ أكبر من أن يترسّخ لدى المظلوم المحتلّة أرضه اقتناع بأنّ المقاومة الدؤوبة المنظّمة الفعّالة هي الطريق الوحيد لانهاء الظلم واسترجاع ما استطاع من حقوق خاصة اذا كان الاحتلال هو أساس وجود الظالم كما هو الوضع بالنسبة لاسرائيل. فعندما ندرك بأن انتشار ثقافة المقاومة الفعّالة بين العرب عامة والشعب الفلسطيني على وجه التحديد يشكّل هاجسا وجوديا بالنسبة لاسرائيل يمكننا عندها أن نتصوّر مدى الجهد الذي تبذله اسرائيل من أجل نزع سلاح المقاومة والقضاء على امكانية انتشارها.
قد يكون لاسرائيل مصلحة حيويّة ورغبة في القضاء على المقاومة وسلاحها ولكن كيف باستطاعتها أن تمارس ضغوطا خارج لجوئها الى السلاح كما فعلت صيف عام 2006؟ فقط من هو على علم بمدى تأثير المؤسسات الصهيونية على القرار الأميركي بكلّ ما يتعلّق بسياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط والمتابع لتفاصيل كلّ تحرّك وجهد فيما يتعلّق بتبنّي تلك القرارات وكيفية تطبيقها يستطيع أن يدرك سبب ومدى اهتمام الولايات المتحدة الخاص بالشأن اللبناني.
انّ نشاط السفير الأميركي وكبار موظفي الخارجية الأميركية بلبنان وتأييد قوى سياسية داخلية ضدّ قوى أخرى هو غير مسبوق بالنسبة لعلاقة الولايات المتحدة بلبنان ولا تبرره مصلحة استراتيجية أميركية. لم تشهد أروقة البيت الأبيض والخارجية الأميركية اهتماما بزعامات سياسية، في لبنان أو غيره، على مستوى تلك التي لاقت حفاوة وتأييدا غير مألوف لمواقفها السياسية خاصة بشأن موقفها من المقاومة وسلاحها. ليس التهديد لمصالح الولايات المتحدة السياسية أو الاقتصادية هو الذي يفسّر جهود الحكومة الأميركية في استصدار قرارات «الشرعية الدولية» بشأن نزع سلاح المقاومة. وليس تهديد الأمن الأميركي هو الذي دفع بادارة الرئيس بوش الى تعطيل الدور الأساسي لمجلس الأمن، الذي هو الحفاظ على السلم العالمي خاصة ابّان الحرب الاسرائيلية على لبنان خلال صيف عام 2006. لقد عطّلت الولايات المتحدة دور مجلس الأمن مدّة أربعة وثلاثين يوما كانت اسرائيل خلالها تمعن في التدمير العشوائي للبشر والحجر في لبنان وذلك بأمل أن تتمكّن أسرائيل من القضاء على المقاومة.
واهم من يتوقّع قرارا أو موقفا أميركيا يتناقض مع مصلحة اسرائيلية جدّية مهما كانت نتائج مثل هذا القرار أو الموقف على المصلحة الداخلية لأيّ بلد عربي. ويخطئ من يتصوّر أن ادارة أميركية تتردد في الضغط على اية دولة، صديقة أو عدوّة، وافتعال أي فتنة داخلية اذا كان في ذلك مصلحة جوهريّة لاسرائيل خاصة عندما يتعلّق الأمر بما تعتبره اسرائيل خطرا وجوديّا على استمرارها بأهدافها التوسّعية. ومن لديه ايّة شكوك في ذلك عليه أن يراقب، بمناسبة انعقاد المؤتمر السنوي لمنظمة اللوبي الصهيوني «آيباك» سلوك السياسيين الأميركيين من رأس الهرم السياسي، بما في ذلك المرشحين لرئاسة الجمهورية، الى أي طامع بمركز في السلطة التشريعية أو التنفيذية والتنافس في اعلان الولاء التام للمصالح الاسرائيلية.
ليس هنا مجال الاسهاب في مظاهر التدخّل الخارجي في الشؤون اللبنانية الداخلية، لكن يجب أن لا يغيب عن البال أنّ الفتنة الداخلية هي أفتك وأفعل الأسلحة بيد القوى الخارجية التي لها مصالح تتناقض والمصلحة الوطنية اللبنانية. وقد أثبت هذا السلاح فعاليته ليس فقط في لبنان بل في العراق وفلسطين وأقطار عربية أخرى. ومدى النجاح في تحصين لبنان واكسابه مناعة في وجه الارادات والمصالح الخارجية مربوط بمدى الوعي لدى قيادييه ونخبه المثقّفة للأخطار الخارجية الداهمة ولأهميّة وحدة أبنائه حول مصالح وطنية مشتركة لدرئ هذه الأخطار. هذه الوحدة يجب أن تترسّخ حول خطّة أمنية فعّالة يشارك فيها جميع اللبنانيين. انّ مثل هذه الخطة هي المدخل لاحتواء سلاح المقاومة وتعزيزه بمشاركة فعلية لمؤسسات الوطن وتفعيل كافة طاقاته.
من أجل بلوغ اتفاق حول خطّة أمنية فيها علاج منطقي لمسألة سلاح المقاومة، لا يجوز الانطلاق من فرضية ان لا شرعية لسلاح سوى في يد مؤسسات الدولة الأمنية، وبالتالي يجب أوّلا نزع سلاح المقاومة. فحقّ استئثار مؤسسات الدولة بحمل السلاح مربوط بارادة وقدرة هذه المؤسسات على الدفاع عن الوطن وسكّانه. فليس من حقّ الدولة نزع سلاح المواطنين اذا لم تكن لديها الرغبة والقدرة على الدفاع عنهم لأنّ الدفاع عن النفس هو حقّ طبيعي سابق لوجود الدولة وقوانينها.
لا شكّ لديّ أنّه عند البحث بخطّة أمنية فعّالة سوف ترتفع اصوات، بريئة أو غير ذلك، لتؤكد أن اسرائيل باتت لا تشكّل خطرا على لبنان بعد انسحابها من معظم أراضيه عام 2000 وهي اذا انسحبت من مزارع شبعا وتلال كفرشوبا فانّه لن يبقى من مبرر للحذر ولتبنّي خطّة أمنية ردعية بالنسبة لاسرائيل. بقطع النظر عن العقيدة التوسعية للدولة الصهيونية وتاريخها العدواني على لبنان أرضا وشعبا ومنذ نشأتها، فما دام في لبنان فلسطينيون يريدون العودة الى الوطن الذي اكرهوا على تركه، من غير الحكمة الافتراض والاستكانة الى نوايا حسنة من قبل اسرائيل. لقد بدأت متاعب لبنان الأمنية مع اسرائيل فور نشوئها واقتلاعها شعبا آمنا من أرضه ودفعه الى الأراضي اللبنانية. منذ ذلك الحين وحتّى تحرير الأرض اللبنانية على يد المقاومة، وسكّان بعض القرى الحدودية يحظّر عليهم الانتقال بسيّارات من والى قراهم في ساعات معيّنة بعد وقوع الظلام وذلك اذعانا لمشيئة اسرائيلية. سيادة الوطن رهن بقدرته على ممارسة حقوقه كاملة فوق أراضيه وأجوائه ومياهه الاقليمية.
الالتزام بخطة أمنية فعّالة فضلا عن كونها ضرورة سيادية فانّها كفيلة بأن تحقق الوحدة الوطنية وتزيل مبررات ابقاء السلاح بيد بعض المواطنين دون سواهم. وكذلك فانّ قيام وتنفيذ مثل هذه الخطة من شأنه تعطيل مفعول العديد من قرارات الأمم المتحدة التي تحدّ من ممارسة السيادة الوطنية وقد تقضي على الرغبة، لدى الدول الخارجية الداعمة لاسرائيل، في التدخّل في الشؤون اللبنانية الداخلية. لأنّه من المستبعد جدّا أن يحظى مسؤول لبناني ملتزم بخطّة دفاعية تحدّ من الحرّية الاسرائيلية بتأييد أي من أصدقائها على الصعيد الدولي.
(أستاذ في القانون الدولي في جامعة جورجتاون في واشنطن)
Leave a Reply