يا إلهي ما الذي فعله الفلسطينيون حتى يتوجب عليهم ان يتجرعوا اكسيرا هو مزاج كل عذابات التاريخ البشري؟ لماذا هم لوحدهم يواجهون التشرد والتشرذم وفراق الاحبة والوطن وتلقي الرصاص ومكابدة الجوع والعطش والبرد في الشتاء والشوب في الصيف؟ يا إلهي معذرة فلم اجد اي معنى لمخاطبة العرب ولا المسلمين ولا الآسيويين ولا الامم المتحدة ولا جامعة الدول العربية ولا الزعماء ولا الحكومات ولا الاحزاب! وحقك يا رب اولئك كانوا وراء العذاب الفلسطيني! ويعلكون المشكلة ويبتلعونها مع بصاقهم! هذه المليارات النفطية المتصاعدة جبالا نحو السماء يكفي الفلسطينيين قبضة منها او قبضتين! هذه الجيوش العربية الجرارة الفرارة ما خلقت الا لتسدد فوهات رامياتها الى الصدر الفلسطيني! فلا تعتب علي يا رب اذا تجاوزت الروتين وخاطبتك فلم الجأ الى ولي او إمام فقد يبست مرارتي من النذور والدعاء!
اخاطبك مباشرة لانك كما تقول اقرب الى المظلوم من حبل الوريد، وان بابك قد تغلق بوجه اي بريد الا دعوات المظلومين! وهل رأيت يارب أمة مظلومة اكثر من الشعب الفلسطيني؟ يقولون ان الفلسطينيين يحبون صدام حسين ويكرهون العراقيين ويقولون ان الفلسطينيين يحبون معمر القذافي اكثر من الليبيين، ويقولون اشياء واشياء، من يقول ذلك فقد استعمل اذنه ولم يستعمل عينه، ومن قال ذلك فقد استعمل عينه ولم يستعمل مروءته. الشعب الفلسطيني لايجد في البلاد العربية التي يهاجر اليها قلبا حدوبا ولا عقلا متفهما ولا ارومة حنونا! يجد احيانا من يقول له لقد بعتم اراضيكم على اليهود، نجد من يقول لهم انكم لم تصمدوا بوجه اليهود، ولا نجد من يبكي حين يرى فلسطينيا ولا نجد من يفتح ذراعيه اذا سلم عليه فلسطيني ولا نجد من يدخل العائلة الفلسطينية بيته ويقتسم معها الخبز والكساء. لذلك رأيت ان اخاطب الرب العظيم فربما يدخل في روع العرب ان الفلسطينيين لايحبون حاكما لشكله او مذهبه بل يحبون من يمد يده اليهم بالمال والسلاح والخطاب في الامم المتحدة لذلك فهم اذا احبوا زعيما فانما حبهم ياتي من باب الوفاء لا من باب العماء او الغزل. واذا احبوا زعيما لانه آواهم ودفع الرواتب لعوائل شهدائهم فذلك لا ولن يعني انهم يكرهون شعبه. فأي شعب عربي هو حزام يشد به الفلسطيني أزره ويقوي به ظهره.
لقد طال ليل فلسطين واقسى ما في كوارث فلسطين هو انتقال ملفها من القومي والانساني والوطني الى الديني والسلفي فازداد الطين بلة وخسر الفلسطينيون وعيا أمميا ما كان أحوجهم اليه.
انتقلت المعركة المقدسة من حرب بين شعب مغتصب بفتح الصاد وشعب مغتصب بكسر الصاد، من معركة استرجاع الحق المضاع والوطن المحتل الى معركة من اجل الدخول الى الجنة الى معركة بين المسلمين والصليبيين بما الغى الدور المسيحي المناضل من القائد الخالد جورج حبش الى المفكر العالمي ادورد سعيد.
الحرب صارت بين الخندق الديني ضد الخندق العلماني بما الغى الدور الكبير للقوى الفلسطينية العلمانية التي تشكل اربعة اخماس الشعب الفلسطيني والعربي ايضا. ان هذا النفق الجديد الذي ادخلت فيه القضية الفلسطينية هو نفق مفض الى انعزالية مؤلمة، لذلك ندعوك يارب ان تهدي القلوب وتبرد نائرتها وتدخل في روع المتشددين ان الوطنية ليست ضد الربانية فكل الاديان تنص على ان حب الوطن من الايمان.
واستذكر في هذه المناسبة اي مرور ستين سنة سوداء على الشعب الفلسطيني المنكوب استذكر الرفيقات الفلسطينيات العظيمات اللواتي استأجرن بيتنا البراني سنة 1948. هل هن احياء كما اتمنى؟ واذا كن احياء فمن ذا الذي سيحمل اليهن استذكاري لكي يقرأنه؟ هن مدرسات ثانوية. أولهن يبلغ عمرها 32 عاما واسمها الست مقبولة وكانت ربعة معتدلة الطول سوداء الشعر كثته بعينين وسيعتين كحيلتين حادتين وقد نسبتها وزارة المعارف عهد ذاك مديرة لاول ثانوية بنات في مدينة النجف التي كان التيار الديني فيها يعتبر فتح ثانوية للبنات لا يختلف في شيء عن فتح ملهى ليلي. وثانيتهن ست مي وعمرها ست وعشرون سنة بيضاء بلون الوفر شعرها الطويل المنسدل بلون الهب الابريز عيناها وسيعتان وبؤبؤا عينيها يا لله خلطة عجيبة من الوان خضر وزرق وبرونز لكن الغالب عليها هو اللون الرمادي الضبابي الفيروزي! جسدها جسد بطلة باليه وهكذا هي الحقيقة. اما الثالثة فهي الست رويدا وكانت بطلة رياضية وفنانة تشكيلية سمراء بشعر اسود نايكَرو بعينين خضراوين.
المدرسات الثلاث كن عازبات وكن مثقفات ثقافة عالية وكن سياسيات ايضا، وكانت معهن صبية بعشر سنوات جميلة مرحة كنا نظنها خادمة عندهن فهي تخدمهن جميعا. كان عمري وقتها سبع سنوات لكنني وانا فقط الذي اشهد على نفسي كنت اكبر من سني فانا اهتز وادوخ امام الجمال. وانا ابكي مر البكاء حين كنت اصغي اليهن وهن ينتحبن امام والدتي الزرقاء وشقيقتتي بدرية (أم علي الزكرتي) وحوراء (ام الشاعر عدنان الصائغ) وحياة التي لم ترزق خلفة، واخي عبد الامير الكبير واخي محمد الصغير، وكنا جميعا ننتحب حتى ان الجميلات كن يتماسكن رفقا بنا وكنت اشعر ببهجة كبيرة حين تضمني احداهن الى صدرها وبخاصة الست مي.
مرة وجدتهن في يوم الجمعة منهمكات بالقراءة، اتذكر واحدة تقرأ في كتاب انكليزي بلا صور، والأخرى تقرأ رواية «إزميرالدا» والثالثة تقرأ في مجلة الرسالة لاحمد حسن الزيات. واتذكر انهن صنعن مكتبة بيتية فيها قواميس عربية وانكليزية ومجلات عربية وانكليزية. احيانا كن يعطينني نقودا وورقة فيها اسماء الكتب التي يردن ابتياعها من سوق الكتب العامر وقتذاك فاشتري لهن بغيتهن فاحصل على قبلهن وعبث اناملهن الرقيقة الرحيمة بشعر راسي العكش. وذلك يكفيني وزيادة.
كانت الصبية ابنة العاشرة قريبة العقل منا فكنا نلعب معها، سألناها عن اسمها فقالت «خرية» وبعد اللتي واللتيا فهمنا ان اسمها خيرية، قالت لنا ذات ليل ان الاشجار تمشي في الليل. فضحكنا منها، حياة ومحمد وعبد الاله. فحملت معها الكازة. وهي مصباح نفطي. وقالت اتبعوني. فتبعناها. اجتازت الباب الوسطاني، من البراني الى الدخلاني، حيث حديقة بيتنا الصغيرة المساحة حيث تظللها ثلاثة اشجار مثمرة برتقالة ونومي حامض ورمانة، وفي الجهة المتاخمة للمطبخ ثمة سيباط ينتشر عليه العنب المثمر.
خرجنا نحن الاربعة فقالت لنا اجعلوا ظهوركم على حائط المطبخ ففعلنا وقالت انظروا الى الحائط الذي يفصل بن بيتكم وبيت السيد هاشم الرادود الشريفي ففعلنا ثم مررت الكازة بيننا وبين الشجيرات الثلاث فتشكل خيال الاشجار على حائط الرادود الشريفي ومشت بالكازة فمشى ظل الاشجار. وقد كان تصرفها كنزا لخيالاتنا الطفولية فما زلت حتى اليوم اتذكرها واقول: أين أنت يا خيرية فالاشجار تمشي والانهار والجبال وكل شيء يمشي الا الانسان فهو ساكن سقيا للذاكرة التي بدات تتيبس وا أسفاه.
مرة سمعت الست مقبولة تصف بشكل مروع كيف كان الاسرائيليون يتعاملون معهن حين دخلوا بيوتهن. فقد قتل الرجال وترك النساء والاطفال وكانت مقبولة وصويحباتها يسترجعن ذاكرة الفجيعة وينتحبن وكنا جميعا ننتحب معهن قلبا وربا. وكانت امي تمضي دقائق وهي تدعو الله ان ينزل عذابه على الاسرائيليين ويمنح رحمته للشهداء الفلسطينيين. اتذكر كنت واقفا وسط الباب الوسطاني وهو الممر الوحيد بين البيت الدخلاني الذي نسكن فيه والبيت البراني الذي تسكنه الفلسطينيات الثلاث، كنت انتحب مثل عائلتي ولكن لا واحدة من الفلسطينيات شاهدت دموعي وكان المديح مقصورا على شقيقاتي وشقيقي. وحين شعرت بالغبن رفعت صوتي بالبكاء فانا احوج من جميع اهل بيتي للحنان فهرعت الست مي نحوي ورفعتني كما الصغار وسلمتني الى الست مقبولة بعد ان باستني ومسحت دموعي. وقد همست الست مقبولة في اذني كلمات مازلت اتذكرها حتى الساعة واقسم بربي همست في اذني «لا تبك ياصغيري عبد الاله ففي غد ستكبرون وتستعيدون لنا فلسطين». يا الهي لقد وشمت الآنسة مقبولة حياتي بفكرة ان يسترجع جيلنا الحق الفلسطيني. فماذا اقول لك ياسيدتي العظيمة مقبولة؟ وقد خيب جيلنا حلمكن المقدس؟ كيف استطيع النظر في عينيك وعيني مي ورويدا وقد بلغت السابعة والستين وجيلنا قدم بقية ارض فلسطين على طبق من خيانة وغباء. لقد ضمت اسرائيل كل القدس اليها وضمت الضفة الغربية من نهر الاردن الا قليلا ومن غزة الا قليلا، لكي تصنع منها حكومة السيد ابو عمار ياسر عرفات، نوّر الله ثراه، إمارة مجهرية بلا سلطات اسمها امارة غزة اريحا. بعد ان وقع لاسرائيل تنازلا مخجلا من اجل السلام عن مساحات كبرى ثم خيبته اسرائيل فتجرع السم ومضى الى ربه فجاء خلفا له السيد ابو مازن والسيد اسماعيل هنية واختلفا مع الحزن واصبحت ثمة امارتان، امارة الضفة يحكمها السيد رئيس منظمة فتح وامارة غزة يحكمها السيد رئيس منظمة حماس. ماذا أبثك يا سيدتي مقبولة وانتما يا سيدتيَّ مي ورويدا فليكن الله في عوننا جميعا لكن الحق آت ولو بعد حين.
من ليل اللدّ أطل المتعب
سلّم كنا ندري ان الليل تنكّب
عدنان الصالحي
سَلَّمَ كنّا غافين
ربتما ثملين
ربتما ربتما ربتما
نصنع من وطن مغدور
وطنا حالما
من شعب مكسور
شعبا حمما
يا لدّ هلا يتذكر اهلوك
وجه فتاك يخب الى حيث اللاحيث
او حيث يكون النسيان
صابون الاحزان
يا لدّ، أعني يا عدنان
لتمر الذكرى الستون السبعون الالفان
لن ينكسر الانسان
لن ينتصر السجان
وكما ألمح بيارة زيتون
وكما ألمح كانون الآتون
فالرفقة آتون
عدنان معهم وأنا والعشاق
الكل يغنون
يا لدّ حبيبة قلبي اقسمت عليك بما
اولاك الأهلون
لا تغفي ارجوك
فلتفتح كل الأبواب
فنحن الساعة آتون
فنحن
الساعةآتون.
Leave a Reply