«ليأت اولادنا الى هنا ويعرفوا هذا التاريخ حتى يمكنهم ضم صوتهم لشعار: لن يحدث ثانية..».
باراك اوباما مدوناً في سجل الزوار
في متحف المحرقة اليهودية.
يكرر المرشح الديموقراطي للرئاسة الاميركية السناتور باراك اوباما وصف قيام دولة اسرائيل بـ«المعجزة». قالها امام الاجتماع السنوي للجنة الاميركية-الاسرائيلية للشؤون العامة (ايباك) غداة تأهله عن الحزب الديموقراطي، وكررها بالامس امام الرئيس الاسرائيلي شمعون بيريز في مقره في القدس المحتلة.
يجهد المرشح الديموقراطي للعثور على اوصاف غير تقليدية لترجمة التزامه بأمن الدولة العبرية وهو الخطيب الكاريزماتيكي الذي اوصله خطابه الى منتصف الطريق نحو البيت الابيض. واوباما، على خلاف ما قد يظن، يبدو مستعداً «نفسياً» ومادياً لاثبات ولائه لـ«القضية اليهودية» وتأكيد التزامه بالدفاع عن «الدولة اليهودية» سائراً بذلك على منهاج كل الرؤساء الاميركيين الذين تحكمت بأدائهم ومواقفهم خلفية «توراتية» وإن ظلت مغلفة بغلالة المصالح الاستراتيجية للدولة العظمى المتربعة على العرش الكوني دون منازع حقيقي منذ افول نجم الامبراطورية السوفياتية السابقة.
السناتور الاسود يزداد اقترباً من اسرائيل كلما اقتربت الانتخابات الرئاسية، وزيارته الاخيرة لاسرائيل اتسمت بمحطات «رمزية» ليس ابرزها الانحناء بالقلنسوة البيضاء والبزّة القاتمة امام نصب يادفاشيم (المحرقة اليهودية) واضعاً إكليلاً من الورد، على عادة الزوار الكبار للدولة العبرية، فهذا الطقس الذي تفرضه اسرائيل على هؤلاء الزوار المميزين بات جزءاً من بروتوكولات الزيارة لاي زائر من هذا المستوى.
ثمة مواقف ومحطات ابرزتها الزيارة الاخيرة لاوباما الى اسرائيل تعدت الالتزام «اللفظي» المعتاد للمرشحين الرئاسيين. فها هو اوباما ينزل ضيفاً على مستوطنة «سيديروت» المواجهة لقطاع غزة والتي لا يتعب الاعلام الاميركي من وصف «معاناتها» مع صواريخ «القسام» البدائية التي تصنعها ورشات الحدادة في القطاع البائس. ومن سيديروت والقدس المحتلة اطنب اوباما في شد ازر الدولة «الخائفة» على مصيرها وكيانها مصدراً الاجازات الاخلاقية لشنها حرباً مدمرة على لبنان من اجل استعادة جندييها الاسيرين، فهكذا ستفعل اي دولة في مواجهة موقف مماثل (كذا). وفي اطار «حق الدفاع عن النفس». ولم ينس اوباما فور وصوله الى اسرائيل تسليف الدولة العبرية موقفاً مؤيداً للغارة التي شنتها على منشأة دير الزور السورية العام الفائت معرباً عن «اعتقاده» انه كان ثمة ما يكفي من الادلة على ان سوريا كانت في صدد بناء مفاعل نووي على الطريقة الكورية الشمالية ولأن الاسرائيليين يعيشون في بيئة معادية جداً واناس كثيرون يعلنون انها عدو!».
يرفض اوباما التحدث الى حركة «حماس»، ولا يضيره في شيء انها منتخبة ديموقراطياً فيما يكتفي من لقاء الساعة مع غريمها الفلسطيني الآخر في رام الله بأقل الكلام واكثره غموضاً وبعداً عن التغطية الاعلامية.
اما القدس فلا يفوت اوباما فرصة التأكيد مرة جديدة على كونها العاصمة الموحدة والابدية لدولة اسرائيل رغم ربطه المسألة «بالوضع النهائي للاراضي الفلسطينية» وهو ربط لا يزيد مواقفه إلا غموضاً تجاه مشروع الدولة الفلسطينية العنيدة.
واما ايران وملفها النووي فيعلن اوباما تطرفه في الوقوف الى جانب الدولة العبرية ويسبغ على المخاوف الاسرائيلية طابعاً «عالمياً» عندما يجزم بأن «ايران النووية ستغير قواعد اللعبة والمعطيات ليس فقط في الشرق الاوسط بل في العالم اجمع..».
من المحطة الافغانية الى المحطة العراقية فالاسرائيلية مروراً بالعاصمة الاردنية رسم باراك اوباما خارطة طريقة الى الرئاسة بـ«حديد المواقف» التي ظهرت فيه صورة مشروع الرئيس الذي لا يقل «حربية» عن الرئيس المحارب جورج بوش وبدا وقوفه على الجبهة الامامية في خرائب بلاد الافغان وامام حشود الجنود في معسكراتهم العراقية محاولة للتعويض عن «المدد الفيتنامي» في صورة المحارب القيم والاسير السابق منافسه الجمهوري السناتور جون ماكين الذي امضى يضع سنوات في الاسر بعد اسقاط طائرته الحربية في احدى البحيرات الفيتنامية.
على ان اوباما لن ينهى رحلته الخارجية التي ينشد فيها اثبات جدارته في العلاقات الدولية وقيادة اميركا في عصر العولمة إلا على جدار برلين فيتحول في زيارته الالمانية الى داعية وفيلسوف يمحص في اخطاء بلاده وذنوبها امام اصحاب «الحلم الاميركي» على الضفة الاخرى من الاطلسي. وامام جدار برلين الزائل وقف اوباما محققاً حلمه في مخاطبة الجماهير الاوروبية التي احتشدت بعشرات الالوف ملوحة بالاعلام الاميركية.
كان خطاب اوباما على منصة اطلال الجدار تصالحياً مع شعوب القارة التي خذلها التفرد الاميركي بمصائر الشعوب والدول على مدى العقدين الأخيرين. بدا اوباما امام الجمهور الاوروبي اشد تواضعاً واكثر اعترافاً بأخطاء بلاده من اي مرشح سبقه قاطفاً ذروة لحظة التوتر الاوروبي من السلوك الاميركي الفوقي في التعاطي مع القارة التي مثلت الاستعمار القديم ومعيداً الى الاذهان المبادئ الانسانية الاربعة عشر التي عمل بوحيها الرئيس الاسبق وودرو ويلسون في مطالع القرن العشرين بعدما اغرقت الادارات الاميركية المتعاقبة جمهورية وديموقراطية التجربة الديموقراطية الاميركية النقية في بحور من الخطايا. حاول أوباما استعادة طيف الرئيس الكاثوليكي الأول والأكثر شعبية في التاريخ الأميركي المعاصر جون كينيدي موجها خطابه على الأخص الى الجيل الشاب الأميركي والأوروبي في استعادة عاطفية للعصر الذهبي للحلم الأميركي، عندما كانت قلوب الشباب تهفو الى هذا العالم الجديد الساحر بانفتاحه واحتضانه لأحلام الشباب على مدى عقود القرن المنصرم.
لكن الازدواجية لم تغب عن مواقف اوباما في رحلته الى «العالم الخارجي» في اول تمرين على التأهل لقيادة اميركا بعد كانون الثاني (يناير) العام 2009 اذا تحققت «المعجزة» بوصوله الى البيت الابيض وكان الامل الذي فاض به خطابه الاوروبي نقيض نبرة التهديد والوعيد التي طفح بها خطابه الشرق اوسطي وبدا السناتور الاسود الطامح الى الرئاسة اسير المعجزتين: «المعجزة» الاسرائيلية التي ترنم بها لاكثر من مرة و«معجزة» انتخابه التي اذا تحققت ستظهر وجهاً جديداً لاميركا، لكن لن يكون للعرب وقضاياهم منها للاسف نصيب من الامل طالما انهم غادروا مفهوم الدولة الامة في زمن شدت فيه امم كثيرة الرحال الى هذا المفهوم.
Leave a Reply