هناك الآن رؤيتان لما يحدث في منطقة الشرق الأوسط من أجواء تسويات محدودة؛ كاتفاق الدوحة اللبناني وما نتج عنه من انتخاب الرئيس العماد ميشال سليمان وتشكيل حكومة ”ائتلاف سياسي” (وليس ”حكومة وحدة وطنية”)، ثمّ التهدئة الأمنية في غزّة، والمفاوضات غير المباشرة الجارية في تركيا بين سوريا وإسرائيل.
الرؤية الأولى ترى بأنّ ذلك مجرّد تجميد لأزمات قائمة بانتظار إدارة أميركية جديدة، وبأنّ هذه التسويات المحدودة تتمّ فقط بإرادات محلّية إقليمية دون تنيسق مع إدارة بوش، بل وربّما بتجاوز لرغبات هذه الإدارة.
الرؤية الثانية، وهي التي أرجّح، ترى بأنّ ما يحدث حالياً هو مزيج من حركة إقليمية-محلّية مع نهج تتّبعه الآن إدارة بوش في أشهرها الأخيرة، ويقوم على مواصلة السياسة العامة الأميركية المعلنة تجاه أزمات الشرق الأوسط وأطرافها لكن مع دعم ضمني وغير مباشر لما يحدث من تسويات محدودة أو مفاوضات غير مباشرة تريد إدارة بوش حصد نتائجها السياسية في لحظات وجودها الأخيرة في «البيت الأبيض»، ومن أجل تحسين الأوضاع الانتخابية للحزب الجمهوري في انتخابات نوفمبر القادمة.
إنّ الانتخابات الأميركية القادمة هي ليست لمنصب الرئاسة فقط بل لكلّ أعضاء مجلس النواب الأميركي ولثلث أعضاء مجلس الشيوخ أيضاً. فإدارة بوش هي تحت ضغط كبير الآن من فعاليات الحزب الجمهوري ومن قوى التأثير والشركات الكبرى الداعمة لها لكي تحرز هذه الإدارة حجماً ولو محدوداً من «الانتصارات السياسية» الخارجية التي تنعكس إيجاباً على الحزب الجمهوري وعلى مرشّحيه، خاصة بعدما تعذّر حدوث لك على المستوى الداخلي الأميركي.
فقد كان أمام إدارة بوش في سنتها الأخيرة ثلاثة خيارات؛ ضَعُف أوّلها، ويحصل حتى الآن ثانيها، وأرجّح ثالثها قبل نوفمبر القادم:
– الخيار الأول: هو التصعيد العسكري في الشرق الأوسط، خاصّةً في مواجهة إيران وانعكاس ذلك على حلفاء إيران في المنطقة، وعلى الأوضاع الأمنية داخل الولايات المتحدة. لكن هذا الخيار رغم دعمه من قبل مكتب نائب الرئيس تشيني وجهات إسرائيلية عديدة، فإنّ الاعتراض عليه حصل ويحصل من داخل البنتاغون ومن وزارة الخارجية والعديد من أجهزة المخابرات الأميركية. فالنتائج السلبية الممكن حدوثها بسبب هذا التصعيد هي أكبر بكثير من الاحتمالات الإيجابية الممكنة، خاصّةً بعد تجربة العدوان الإسرائيلي على لبنان في صيف العام 2006.
– الخيار الثاني: وهو إدارة الأزمات الحالية دون إحداث أي تحوّل جذري في مساراتها، وترك كيفية معالجتها للإدارة الأميركية القادمة.
محاذير هذا الخيار بالنسبة لإدارة بوش وللحزب الجمهوري أنّ ذلك يؤثّر سلباً على الرأي العام الأميركي كما ظهر واضحاً في الانتخابات الأميركية النصفية في تشرين الثاني (نوفمبر) 2006 والتي أوصلت غالبية «ديمقراطية» لمجلسي الكونغرس، وأوجدت مناخاً مناسباً لترشيح باراك أوباما وهو الذي عارض منذ البداية الحرب على العراق، ويطرح نفسه كمرشّح لتغيير مسارات إدارة بوش وسياستها الخارجية في مقابل جون ماكين الذي يتبنّى استمراراً لها في معظم المجالات.
– الخيار الثالث أمام إدارة بوش، وهو ما أفترض حدوثه الآن، يقوم على إظهار التمسّك بالمواقف المعلنة من خصوم السياسة الأميركية في الشرق الأوسط لكن مع تشجيع أطراف محلية ودولية على المفاوضات مع هؤلاء الخصوم من أجل وضع لبنات أو أسس لأرضية مشتركة مع إدارة بوش يمكن البناء عليها في الأسابيع الأخيرة ما قبل انتخابات تشرين الثاني.
فما يحدث الآن من تسويات وتهدئة ومفاوضات ربّما تكون كالقطع المبعثرة التي تريد إدارة بوش أن تجمعها لاحقاً في «صورة واحدة» تضعها أمام الرأي العام الأميركي وأمام العالم لتقطف ثمارها السياسية في اللحظات الأخيرة.
وما أتوقّعه في المرحلة القريبة القادمة، أن يتمّ تصحيح مسار «الحرب الأميركية على الإرهاب» لكي تركّز من جديد على أولوية التعامل مع الأوضاع الأفغانية وتصاعد دور جماعات «طالبان» و«القاعدة» في المحيط الباكستاني، بعدما فشلت إدارة بوش في إقناع الأميركيين والعالم بأنّ الحرب على العراق كانت جزءاً من «الحرب على الإرهاب». وقد تهاوت في السنوات الماضية الأعذار والمبرّرات التي أعطيت للحرب على العراق، كما أيضاً لمحاولات الخلط بين «القاعدة» وبين ما أسمته إدارة بوش بمحور الشر أو «الدول المارقة». فها هي كوريا الشمالية تحصل الآن على ما أرادته من تصعيد برنامجها النووي، وبذلك سقط مشروع إدارة بوش الذي قام على تغيير النظام هناك. وهاهي أميركا تدعم المفاوضين الأوروبيين مع إيران وتزيد من حجم الحوافز الداعية لطهران لتجميد التخصيب النووي على أرضها.
وها نحن نرى الحكم الفرنسي الجديد، الذي قيل الكثير عن علاقاته الجيدة مع إدارة بوش، يفتح أبوابه وأبواب الاتحاد الأوروبي لحكومة دمشق ويدعو سوريا إلى دور مهم تجاه إيران وفي قضايا الصراع العربي-الإسرائيلي وجبهاته الفلسطينية واللبنانية.
وها هو أولمرت المستمرّ في الحكم بسبب الدعم الأميركي الكبير له يؤكّد على أهميّة المفاوضات مع دمشق التي ترعاها تركيا العضو في حلف الناتو، والذي تجاوب أيضاً مع مسألة التهدئة الأمنية في غزّة ثمّ مع شروط صفقة تبادل الأسرى مع «حزب الله».
وهل كان ليحدث اتفاق الدوحة اللبناني دون مباركة أميركية له؟ وهل كانت الأطراف العربية واللبنانية ”الصديقة” لإدارة بوش لَتُسهِّل هذا الاتفاق لو كان لواشنطن اعتراض عليه؟!
وهل خطوات التهدئة الأمنية في غزّة، واستئناف الحوار الفلسطيني الداخلي، أمور ممكن حدوثها لو اعترضت عليها واشنطن كما اعترضت في السابق على «اتفاق مكّة» فمنعت تنفيذه.
يخطئ طبعاً من يعتقد أنّ واشنطن هي القضاء والقدر! أو أنّها هي التي تقرّر والآخرون ينفذّون فقط. لكن يخطئ أيضاً من يرى أنّ الأطراف الإقليمية أو الأوروبية، التي تتحرّك الآن لصنع تسويات في المنطقة، إنّما تعمل ضدّ إرادة واشنطن أو مصالحها الكبرى.
هناك متغيّرات تحدث صنعتها أولاً إرادة المقاومة في المنطقة وفشل إدارة بوش في العراق وفي مشروعها الكبير للشرق الأوسط .. لكن نحن الآن في مرحلة صنع تسويات تحتاجها كل الأطراف بما فيها تلك التي ساهمت في إفشال أجندة الإدارة الأميركية.
مدير «مركز الحوار العربي»
Leave a Reply