تمتد اصولنا الانسانية الى ازمنة غابرة يصعب محوها كليا او التغافل عنها او اهمالها، لكنها قابلة للتبدل والتغير والتشكل بقوالب مستحدثة تناسبا مع الحداثة ومتطلباتها.
ابناء الحداثة نحن، وجيلنا هو جيل الحضارة. لكن السؤال الاكبر اي حداثة هي هذه واي حضارة نعيشها وجذورنا تبعثرت مع اشيائنا يوم قررنا الرحيل، واصولنا تركناها خلفنا يوم حزمنا الحقائب، واعرافنا رميناها من نافذة الطائرة فور اقلاعها.
أصولنا وعاداتنا ليست مسائل وقتية وظرفية نتماشى واياها في حقبة زمنية محددة ونتجاهلها ساعة تتعارض مع اهدافنا الدنيوية. انها نتاج مخاض عسير لابائنا واجدادنا الذين مهدوا لنا سبل الحياة الكريمة الهادفة وسعوا قدر المستطاع تنوير مساراتنا ومراحل حياتنا. لكن الى اي مدى نحذو حذوهم ونتبع مبادئهم؟ ما الذي وفرناه من خطى متينة وسليمة للجيل الحالي والاجيال الاتية؟
بالعودة الى الزمن ولو قليلا، ندرك ان الجماعة هي التي كانت سائدة، والاتحاد هو المسيطر. في الوقت الحالي اضحت الفردية هي العنصر المسيطر والطاغي على المجتمع. ومن المتعارف عليه ان الفردية هي عامل مفكك للوحدة الاجتماعية حيث تحول البيئة المجتمعية الى اجزاء اشبه بالخلايا المتشرذمة والتي يضرب افرادها مبادئ الحياة والاسس والاصول والعادات والتقاليد والاعراف عرض الحائط، ولم لا. فلا رقيب والذي لو وجد، فلا من مجيب. وهنا استذكر الشعر القائل:
وكن في الطريق عفيف الخطى شريف السماع كريم النظر
وكن رجلا ان اتوا بعده يـقـولـــون: مر، وهذا الاثــر
الاثار التي ترك بصمتها المهاجرون الاوائل لها الوقع لغاية يومنا هذا. المرحلة التي مروا بها كانت جد شاقة، لا سيما اذا حاولنا فهم كيفية هجرتهم وعدم قدرتهم على التخاطب مع الاخرين بلغة يجهلونها. ولا بد من الاشارة ان البعض منهم عاصر ازمة الكساد الكبير سنة 9291، وبالرغم من ذلك نجحوا وارسلوا لاخوانهم وابنائهم واستقدموهم الى هذه الارض بعد ان وفروا لهم اقصى ما امكنهم من التسهيلات للانطلاق سويا. هؤلاء، بالرغم من رحيلهم عن عالمنا، الا انهم ما زالوا احياء بفضل ما تركوه خلفهم. أما أولئك الذين فقدوا الإيمان بالانتماء وثبات الوجود ، فهم الموتى الحقيقيين في هذه الحياة.
المغترب بنظري هو كالنبتة التي تم اقتلاعها من جذورها من ارضها الام لتغرس بارض جديدة.
وهنا العامل الرئيسي يتبلور. فهذا المغترب اذا نشا نشئة صالحة انبثق منه غرس صالح، مثمرا ومباركا. والعكس صحيح. اذا شب ونمى في ارض موبوئة، كانت الناتج شوك وصبار لا يصلح لشيء، لا بل يشكل عامل اذى وخطر على من حوله.
لكن هذا الشوك حتى ولو وجد في الصحراء فهو عامل خلاص وسبيل للنجاة. الله سبحانه وتعالى شمل كافة مخلوقاته الصالحة منها والمستكبرة بسمات خيرة، قد لا تكون ظاهرة للعيان، لكنها موجودة باطنيا . فالفرد الذي شاء هو نفسه، او فرضت الظروف القاهرة نفسها عليه هو بالاساس غرس صالح. فلم لا نعيد ريه وسقايته بما يتعطش له جوفه ويحن له وجدانه؟
كم من شاب وفتاة قضوا نحبهم اثناء قيادتهم المسرعة او حوادث السير، وكم من اخرين رحلوا لاسباب تعاطيهم المسكرات والممنوعات او ضحايا لاعمال مشابهة. لكن جميعهم اضحوا طي النسيان، الا في ذاكرة ذويهم ،لا تزال مشعة وجوههم ومهلهلة اصواتهم. فلم لا نعيد احياء ذكراهم علنا نوقظ ضمائر الاخرين وننبه عامل الوعي لديهم. الشاب الذي يعتمر قبعة مائلة ، فمن السهل ادارتها الى الامام مع لفت نظره الى معنى هذا التصرف والى اي جمع يعود هذا التقليد، والسروال الهابط ايضا يسهل رفعه، ولباسه الداخلي ليس من المفترض ان يظهره للعيان، فهناك ما نود جميعا رؤيته في شبابنا من اخلاق و نجاح وتفوق . والفتاة المحجبة التي ونتيجة اي حركة سيتمزق بنطالها او تتفتح سترتها ايضا يسهل لفت نظرها الى اصول الحجاب، والاخريات اللواتي ظنن ان اسعار الاقمشة ارتفعت مع ارتفاع سعر النفط ، فيحاولن جاهدات التوفير قدر الامكان من كمية القماش والثياب.
اما تنوع الاذواق الموسيقية اضحت حاسة ملموسة، لا سيما عند التوقف على اشارات السير. فالتنافس ظاهر، اي من الاخوان والاخوات تتصدر سيارتهم احدث اجهزة الصوت التي تصدر هزات ارتجاجية، اقسم انني اشعر بان الارض من تحتي ترتج وقدرتي على التنفس تتضائل نتيجة عاملي المفاجاة والرعب.
كل الامور هذه يسهل جدا معالجتها بواسطة التخاطب الهادف والبناء الذي يحاكي الافراد بالمستوى الذهني المفروض للوصول الى اذهانهم الباطنية ووعيهم الداخلي. فلا التأنيب ولا التعنيف ولا التوبيخ سيوصلوا الى الهدف المنشود. واعود واشدد على اهمية الرادع الديني والتوعية الاسرية. فكل ما نحققه باستخدام القوة، نخسره باسهل الطرق. وكل ما ننجزه بشكل عملي وعلمي ومنطقي لا نخسره ولو بالقوة.
عاداتنا واصولنا وتقاليدنا ليست بامور مفروضة علينا، بل هي امور وجدت لتسهيل اساليب تعاملنا مع الاخر ومع انفسنا. انها صورة ومرآة لحضارتنا وانعكاس لمجتمعاتنا واوطاننا الام. والحفاظ عليها هو حفاظ على حضارة امم من قبل. فليس من اليسير السير متجاهلين ما يحلو لنا. فمن المهم، لا بل من المفروض الجمع ما بين الجيد من الحضارتين، الام والبلد الحالي، مع الادراك بكيفية التوفيق بينهما بشكل يضفي رونقا يجعل المرء عامل جذب للاخرين للتعلم منه والحذو حذوه.
هكذا يمضى العمر بعد أن تستهلكنا التجارب ، تأتي على مخزوننا من الفرح والحزن والمبادىء والاسس وتتركنا للسكون والضياع. هل هذا هو السلام المنشود، أن نتخلص من ثقل التجارب بيقين يخلو من الندم على ما فات، أو من الحسرة على ما لم نعشه فيها؟ ولم ندع مكانا للندم والتحسر في طريق حياتنا ما دام بالامكان التصحيح والارشاد.
واختتم بالاية الكريمة: {واما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا الى رجسهم …وما ظلمهم الله ولكن كانوا انفسهم يظلمون}.
Leave a Reply