لا شك ان الإهتمام البالغ بمتابعة مسلسل «نور» التركي الناطق بالعربية لم يأت من فراغ، ولم تتهافت الملايين على متابعته من باب التسلية كما هو الحال مع الكثير من المسلسلات العربية. بل اتى من اهتمام المشاهد بقضية طرحها المسلسل طالما شغلت بال الجميع منذ زمن بعيد وهي قضية الحب. فالمسلسل يتحرك على عدة محاور اساسية وجوهرية في حياة الناس واهمها علاقة الرجل بالمرأة (الحبيبين) التي تتمثل بمهند ونور. هذه العلاقة التي يفهمها كل مشاهد على هواه ووفق ثقافته حيث امتلك مهند بوسامته واخلاصه لحبيبته قلوب النساء وأثار حفيظة الرجال الذين أكلتهم الغيرة على نسائهم المعجبات بالشاب التركي ذو اللغة العربية واللهجة السورية المحببة. وقد ذهبت الغيرة ببعض الرجال العرب الى طلاق زوجاتهم لإعجابهن المعلن بمهند، وبعضهم اخفى غيرته هذه بحكم رجاحة عقله، وبعضهم أثنى على قصة الحب هذه، وكلهم دون استثناء تقريبا امتعضوا من المسلسل خلال حلقاته الأخيرة التي بدت فيها نور ملحة على الطلاق من حبيبها المميز دون سبب مقنع وهذه ربما نقطة ضعف بارزة في المسلسل. ومع ذلك بقي الجميع معلق بالحلقات المتلاحقة للوقوف على خواتمها السعيدة. ويد المشاهدين على قلوبهم أن لا تكون النهاية سعيدة بقدر الإعجاب بالدراما المثيرة.
لقد طرح المسلسل قصة حب فريدة من نوعها وغير متداولة تقريبا في ثقافة أمتنا العربية بفهمها العميق للحب. فمثل هذه الدراما الشفافة والصادقة لما تتضمن من تفاصيل يومية لحياة العاشقين السعيدين اللذان مرا بمطبات كثيرة وخطيرة وتجاوزاها بشيء من الإثارة والدهشة. نال اعجاب المتلقي العربي وحمله الى التعلق بالمسلسل والمتابعة الحارة المنوعة والمغرية من جهة، كما احدث صدمة للعقل العربي جراء المواقف الجريئة جدا وغير المألوفة في ثقافتنا العربية والتي تمثلت بتسامح مهند واشتباك هذا التسامح بالقلق على حبيبته خلال عملها مع عابدين الذي كان يضمر لها شرا. وان المشاهد كانت لا تخلوا من التفاصيل المملة احيانا لا لكسب الوقت الضائع في صناعة المسلسلات التجارية كما تبين بل لتطبيع العلاقة مع المشاهد ونقله من دائرة التلقي الى دائرة الشريك. وهذه بدعة فنية حديثة ربما تحدث جديدا في فن الإخراج الدرامي الذي يستدعي متل هذه العلاقة الحميمة مع المشاهد.
فالحب في بلادنا ما زال لغزا يصعب فهمه والتعامل به كما ينبغي من خلال تكويننا النفسي والعاطفي والإنساني كما تمثل بعلاقات الأزواج وزوجاتهم المحيطين بنور ومهند حيث تطابقت عواطفهم وعلاقاتهم مع التقاليد السائدة والمفهوم الشائع في بلادنا للحب.أما علاقة مهند بنور اتسمت يتحريك االمشاعر الكامنة لدى المشاهد كما لو ان حياة الحبيبين قصيدة يومية جارية دون انقطاع.
والملفت في هذه الدراما التركية الرائعة انها تضمنت كل مفاعيل الحب تقريبا ومكوناته أن من طرف بطلي القصة وعلاقتهما الخاصة ببعضهما، أو من طرف مجتمعهم الذي يحترم الإخلاص، أو من طرف الأسرة السعيدة بهذا الزواج الذي يكلله الحب دون الإتكال على دعم الولد أو الأهل او البيئة. فكل فريق من بيئة مهند له حصة معينه في ما يثير المشاعر الجياشة للحبيب ولكنه غير قادر على فعلها، وكل يفتش عن حصته هذه وراحة نفسه باستمرار العلاقة السعيدة بين الحبيبين السعيدين نور ومهند. ولكن نور ومهند لهما انفعالاتهما الخاصة ورواسبهما وغرورهما احيانا، واستقلالية كل منهما عن الأخر، بما يتعلق بخصوصيته وهذه طبيعة الإنسان ولو كان عاشقا حتى أذنيه.
لذلك أتت الحلقات الأخيرة غير متوافقة مع مزاج الكتير من المشاهدين وبيئة مهند أيضا. خاصة عندما تصاعد تعنت نور الذي حمل مهند لاحقا الى تعنت مقابل أدى بالنهاية الى الطلاق. طلاق بعد تضحيات كبيرة جدا قدمها مهند لحبيبته يوم فداها بحياته وخلصها من حيانة صديقها عابدين. فهل يعقل أن يلي ذلك طلاق وخصام مهما كان السبب؟ هذه النقطة ربما كانت الأضعف بالمسلسل من وجهة نظر المتلقي عندما اتى خصام الحبيبين فيما بعد لأسباب سطحية جدا تتعلق بغيرة نور من عشيقة مهند السابقة (نهال) حيث ظهر الفتى بريئا وحبيبته نور مفترية ومغرورة الى حد أثار نقمة المشاهدين وهز صورة الدراما بكاملها، الى ان وقع الطلاق وأقره القانون.
اهتز المشهد وانقلبت كل الأوضاع الهادئة الى تشنج وبؤس تطاول على ذوق المشاهد أيضا وأثار حفيظته وبات على قاب قوسين او أدنى ليكفر بالحب والمحبين، ولكن شيئا ما لا بد أن يحصل وهنا جوهر الموضوع اذ أن الحب بقي متوقدا بالرغم من الطلاق الذي أغضب الجميع وأسقط الفارسين عن صهوة جوادهما. فالمسلسل لم ينته بعد ولعله من هنا بدأ ليقول من جديد وبصوت عال: ان الحب أقوى من الإعتبارات الإجتماعية التي تحميه عادة، وأروع من صفاء المحيط الذي يحصن الحبيبين، وأعمق من القانون الذي يحمي الأسرة والولد من الضياع، وأبلغ بكثير من خطاب التفاهم الذي يرعاه الأهل ويحميه القانون وتحرسه التقاليد والأعراف وتكرسه الحاجات المتبادلة بين الزوجين، وأكبر من انفعال العاشقين ورواسبهما وانانيتهما، خاصة اذا اختمر وتعتق في القلوب ليصبج مادة أخرى تصنع المستحيل.
تم طلاق نور ومهند بفعل انفعالاتهما الذاتية حيث هز هذا الطلاق الصورة المركبة من تقاليد الروابط العاطفية والأسرية.أما الحب الحقيقي لم يتأثر اطلاقا فحادث السيارة وحريقها باللحظة الأخيرة أكد أن الحب انتصر على قرار الطلاق وعلى انفعال الأشخاص وعلى موجبات الأسرة وواجبها اتجاه الزوج والولد والمجتمع، وانتصر أيضاعلى المركب الثقافي بكل تفصيلاته وتعقيداته الذي يحمي الحب نظريا لا فعليا.كما انتصر على الإنفعالات الذاتية لدى الحبيبين بخياركل منهما أن يخلص حبيبه (المطلق) من خطر الموت داخل السيارة المحروقة.
Leave a Reply