أوه ماي غاد!! يا للهول بالمقاييس الأميركية. صرخت بي زميلتي الأميركية في العمل وفنجرت عينيها قائلة: خمس سنوات بلا إجازة!! نو! نو!
كم بدت لي تلك الصديقة الموظفة هزلية وهي تقنعني لا بل توبخني لأني لم أذهب في إجازة منذ خمس سنوت واستغربت كيف اني لا زلت حية ترزق أقوم وأقعد بلا حبوب مهدئة وبلا دكاترة نفسانيون، أدفع لهم ما يبقى لي من راتبي التي تقضمه فأرة الضرائب، التي أتمنى لو مرة واحدة تغلط وتضع لي عدة أصفار على اليمين. إذ عندها ربما يكون باستطاعتي أخذ إجازة.
حسب مقاييسنا نحن العرب من أهل العالم الثالث قبل الألف، الطبقة العاملة الكادحة، والكثير من أصحاب المهن، لا يعرفون الإجازة حقاً بحكم مسؤولياتهم ووظائفهم التي لو تركوها لبضعة أشهر، سوف يختل ميزان الإقتصاد العائلي أيضا الكثير من أصحاب المهن والأشغال الأخرى عدا عن العاطلين عن العمل الذين لا يملكون نفقات الإجازة أصلاً.
مقابل كل ذلك، الأصدقاء والأصحاب والإعلانات تمسكك من أذنيك وتشدها مذكرة إياك كالتلميذ الغبي الكسلان. إنه يجب عليك أن تهرب قليلاً من مشاغلك ومن رئيسك الذي يقهرك في العمل، ورئيسك الآخر في البيت، الزوجة والأولاد، وتأمرك لترتاح قليلاً قبل أن يكل قلبك وينهار!!
الإجازة هنا في أميركا، فعل وتصرف مقدس سواء للفقراء أو الأغنياء. لذلك ترى المطارات، والمتاحف وكل الأماكن التي تخطر في بالك للهو والتسلية مكتظة صيفاً وشتاءاً. العائلة الأميركية تبدأ في التخطيط للإجازة قبل أمد بعيد، حتى الكلاب والقطط لها مطرح ولها مكان في الإجازة. وإذا لم تتمكن هذه المخلوقات من السفر مع أصحابها، فيتم إيداعها في حضانة خاصة لتلك الحيوانات المدلّلة لتكون في مأمن من الجوع والعطش والإكتئاب.
أما نحن المغتربون فالكثير منا أدخل نفسه في دوامة العمل، دوامة الوصول والنجاح والمال الكثير أدخل نفسه إلى طائرة الطحن النفاثة من العمل وقيّد جسده في مقعد داخلها. فلا يعود بوسعه الهرب من تلك الشرنقة قبل تنفيذ أحلامه وطموح زوجته وأولاده.
حين يكون المرء مفلساً وجيوبه مثقوبة وحسابه البنكي صفر. لا يملك نفقات الإجازة ولكنه يحلم ويحلم بها. وبعد دورة الأيام السريعة نحو الأمام والتقدم،
——————————————————————————–
يجد نفسه قادراً على الإستمتاع بكل ما كانت تشتهيه وتطلبه نفسه أيام الشباب والصحة والفقر، لكنه يفقد الرغبة وأحياناً يفقد الصحة للإستمتاع بنشوة النجاح والمجد. أحياناً كثيرة يفقد الرغبة في الحياة عندما تصبح الإجازة نمطاً من أنماط الإستشفاء، والهرولة خلفاً لأيام جميلة ضاعت في تكديس المال الذي يصرفه الأولاد بلا حمدٍ وشكر. أحد أصحاب الأعمال المنفوخين عمارات ودولارات كان يتغدى مع ولده أكثر الأحيان في مطعم ما. اعترض النادل مرة على الوالد الثري وأعاد إليه الدولار الذي كان ينفحه به كإكرامية، قائلاً له: إن إبنك يعطيني عشرة دولارات كل مرة مقابل دولار واحد منك! نظر الثري للنادل وقال له هو يعطيك عشرة دولارات لأنه إبني إبن فلان، أما أنا فهل تعلم إبن من أنا؟
طبعاً لكل إنسان فلسفته وإداركه في مسارحياته والكثير من المترفين الموجودين معنا من أبناء وطننا الجليل لبنان. الكثير عادوا في إجازات مرضية إلى القرى الجميلة التي تركوها صغاراً. وحسب منطقهم فكل شيء يخضع للكالكيلايتور والحساب. الكثير منهم جردوا القرى من طابعها القروي البسيط الجميل وبنوا فيها قصوراً وفيللاً وأحاطوها بالأسوار المعدنية، كهذا الزمن المعدني الذي نعيش فيه بكل خشونة وقسوة. أحد الشباب بعد أن استعمل كل وسائل النصب والإحتيال وكل وسائل الجر لمليء جيوبه من المال المباح من شركات التأمين ورهن البيوت وغيره، اختفى من أميركا في ليلة ما فيها ضوء، ونبت بكل صفاقاته وهوجاته في قريته في جنوب لبنان الطاهر. أقنع أهله وجيرانه والصبايا اللواتي تكاثرن حوله كالبعوض القارص، إنه جاء في إجازة إلى مربع الطفولة. راح يصرف في إجازته تلك يميناً ويساراً على التوافه من الأمور بحجة التطور والتمدن. إقتلع أشجار التين والزيتون من الحاكورة، التي أفنى أهله عمرهم في زراعتها، وبنى بيتاً متطوراً على الطريقة الأميركية. ثم نظر إلى شجرة البلوط العتيقة القائمة قيام الدهر. تلك الشجرة كانت ملطفاً للهواء الحار الخانق ومأوى للعصافير التي كانت تزعج ذلك الشاب المتأمرك، عندما تزقزق بفرحٍ كل صباح. نظر بعصبية صارخاً بوجه أهله وأصدقاؤه الذين استغربوا عزمه على قطع شجرة البلوط تلك قائلا لهم: «يو آر ستوبيد دنكيز. ما بتفهموا بالتطور والتمدن»، وتابع ذبحه للشجرة العتيقة ويحفر موضعها بركة للسباحة ليتمم استمتاعه بالإجازة.
إذا كنت من هؤلاء الذين أنعم الله عليهم – وعين الحسود فيها عود – وترضخ تحت مطالب الزوجة الحكيمة الفهيمة وأولادها اللطفاء الظرفاء من هذا الجيل المنطلق الحر الذي يعيش كل واحد على ذوقه وهواه – مع الإعتذار من زياد الرحباني لأنه صاحب هذه الكلمات. إذت كان لديك القدرة على السفر في إجازة كل سنة إلى لبنان، وتعود بعد الإجازة مكتئباً زعلاناً من زوجتك وأولادك الذين لا يرحموك ويلعنوا أمك وأبوك، لأن أنت أصل الفكرة في الذهاب إلى الوطن الجميل الذي تتحدث عنه وعن جماله وهواؤه وصفاء وكرم أبناؤه، لكنهم للأسف وجدوا الوطن بلا كهرباء. والحنفيات بلا ماء. وتحمد الله وترشيهم بأنهم قضوا إجازة بلا عدوان أو قصف، فيصرخوا جميعاً بوجهك أن قصف البعوض هاجمهم من كل حدب وصوب، ولا زالت أثار العض على وجوههم برغم المبيدات والكريمات التي زودتهم بها قبل السفر. ولا تلوم عائلتك لأنهم وجدوا الوطن كتلة من الإختناق، الناس والسيارات والقاذورات والذل والمهانة من العصابات والزعامات. إذا كنت واحداً من هؤلاء. أنصحك في المرة القادمة أن تشحن العائلة إلى أي بلدٍ يختاروه وزودهم بالمال والعتاد من «سي دي» و«دي في دي» وهواتف نقالة وكل ما يلزمهم من التفاهات، لوازم شم الهوا والنزهات. أوصلهم إلى المطار، ولا ترجع إلى البيت إلا بعد إقلاع الطائرة.
إدخل إلى البيت، أقفل الباب جيداً، إنزع خط التلفون. أغلق ذلك الجهاز المزعج الذي بات يشاركك أكلك ونومك حتى دخولك الحمام، ذلك الجهاز الذي ينق ويدق أكثر من الزوجة ومن الأولاد، ومن حماتك التي تعيش في ما وراء البحار في بلد من البلاد، حماتك تلك تأمرك وتزجرك أن ترسل لها إبنتها التي هي زوجتك هذا الصيف قبل أن تموت شوقاَ لرؤيتها! وقبل وبعد ذلك لا تنسى أن ترمي جهاز الكومبيوتر بألف لعنة. واللاب تاب، ارميه في غرفة خلفٍ الباب، بعد ذلك أنظر حواليك في بيتك الذي تعيش فيه من عشرات السنين. سوف تكتشف أشياء عديدة تعيش معها ولا تراها. سوف ترى بيتك هادئاً لطيفاً يستقبلك كأحضان أمك التي انتظرتك بشوق طويلاً لترمي نفسك على صدرها وهي تربت على ظهرك بيدها اللطيفة حاملة سبحتها الطاهرة، تشم رائحتها التي تنسيك الإجازات والعطلات والتسوق وحماتك عبر البحار.
هذه هي الإجازة الحقيقية أن تنظر حولك داخل نفسك وبيتك.
سوف ترى بعينك الأثاث والغرف وتعرف ما بها. تحاول إصلاح البسيط من الأعمال. أو ترتيب الكتب التي اشتريتها سنة بعد سنة على أمل تقرأها لاحقاً. ترتب أوراقك. تنظر بحب وشوق إلى صورك وصور أولادك وهم ملائكة صغار ، فتحبهم أكثر الآن في سنهم الحرج وتتمنى لهم إجازة سعيدة. تقرأ الرسائل التي كانت دارجة قبل التلفون والإيميل، تلك الرسائل التي وصلتك من أهلك أو أصدقاؤك وتضرب رأسك بالحائط ندماً على الأوقات والساعات التي كنت تقضيها في مشاهدة البرامج التافهة والمسلسلات التي كانت زوجتك ترغمك على مشاهدتها معها تعبيراً عن حبك لها! أو في مشاهدة نشرات الأخبار مع جارك الثقيل الظل الذي كلما رآك يسألك عن أحوالك، وما جرى لك ويتحفك بتحليله السياسي الممل، عند ذلك قد تميل على التلفزيون وتنزع الفيش من الحيط، وتدخل لتنام وحدك على سريرك، بدون منغصات ومنشطات، تنام قرير العين، ربما لأسبوع أو أكثر، تشعر بعد ذلك إنك حقاً أخذت إجازة ورجعت منها إنساناً آخر. نشيطاً فرحاً مرحاً خال من السكر والكوليسترول والاكتئاب.
Leave a Reply