كنت في العمل السبت الماضي، رجعت إلى البيت عصراً، فتحت التلفزيون لأعرف ماذا حصل في العالم في الساعات الأخيرة الماضية. الوقت كان عصراً والفضائيات ليلة السبت مشتعلة بالغناء التافه والرقص الماجن العاري، صدمت عندما قرأت في الشريط الأخباري أسفل الشاشة، أن الشاعر محمود درويش قد توفي اليوم في مستشفى في ولاية تكساس الأميركية.
تابعت القفز عبر الـ«ريموت كونترول» من فضائية إلى فضائية، لا شيء غير عادي، الأفلام والمسلسلات، والفيديوكليبات على قدم وساق. بكيت بحرقة. شعرت أن أخي اليوم مات، وأنا وحيدة أبكيه في غربة قاسية، يلفها صمت العشية بعدما هاجر القمر في الصبح بعيداً في العيون العسلية التي تمنيت لو تكنس كل هؤلاء المغنين المختلين وتطلق عليهم ناراً من بندقية قلة الحياة والشرف.
إذن، لقد هَرِمَتْ طفولتك يا شاعري الحبيب، يا شاعر الأم، يا شاعر فلسطين، التي جعلتها كتعويذة مقدسة على لسان كل عربي، تحميه وتعوذه من شرور شياطين الإنس والجن. لقد غلبك الحنين أخيراً إلى حضن أمك ولمستها. عدت إليها، إلى فلسطين لتغطي عظامك بعشب، غنيت له وأنبح صوتك ليتركوه طاهراً كطهر كعب أمك، فدنسته أقدام الأصدقاء أكثر من أقدام الأعداء. لقد تعبت تلك الأم الصابرة، ربما أكثر من صبر أيوب المر، فشلت تلك الأم أن تشد وثاق ما تبقى من الوطن بخصلة شعرها بعد أن قطع الأعداء الخيط في ذيل ثوبها. وأطفأوا النار في تنورها، ووسخ الأبناء المختلين عقلاً وفعلاً الغسيل على سطح دارها.
يا شاعري الحبيب، نم قرير العين، لأن تلك الأم، أمك، وأمي وكل أمٍ التي نعشق أعمارنا حباً لها وخجلاً من دمعها المسكوب إذا متنا الموت العبثي برصاص الأخوة والرفاق، أصحاب الجرح الواحد والهم الواحد والخاسر الواحد. أمك وكل الأمهات لن يدعوك تفقد الوقوف، شامخاً كبيراً ككلمات شعرك، كل الأمهات الأحياء والأموات يصلين لك، وتسابيحهن أيقظت العصافير الصغيرة، عصافير الجليل وجنوب لبنان حتى تشاركك درب الرجوع لحضن أمك لتأكل من خبزها، وتشرب قهوتها، ولا تخجل من دمعها لإنه سيكون دمع الفرح بلقاء إبنٍ شرّفها ورفع ذكرها وجعلها قديسة يتبارك كل من يذكر إسمها ويشعر بالفخر والعز كل من انتمى لحضنها.
عد إلى حضن أمك يا شاعري الحبيب، عساك تصير إلاها!
لقد تعبت شفتاك من إرتشاف القبل على حد السكاكين والمدافع والجوع والفقر. أتعبك صمت ريتا الطويل حين امتد أمام الباب كالشارع الطويل بلا نهاية، وحيّك القديم هجرته العصافير، وياسمينهُ صار وجهاً آخر للبراكين الحاقدة. والصمت العربي من المحيط إلى الخليج، صار فأساً قاطعاً للأشجار وجعلها توابيتاً لدفن العيون العسلية، عيون ريتا بعدما أطلقت عليها ناراً بندقية الغدر والخيانة.
لقد تعبت كثيراً يا شاعري الحبيب، أتعبك البحث عن معنى جديد للحقيقة. أتعبك البحث عن وطنك، عن أمك، رفضت أن يكون وطنك حبل غسيل لمناديل دم أمك وأبناؤها المسفوك ظلماً وقهراً في كل دقيقة، أتعب قلبك ظلم الأخوة الذين رفضوك بينهم، ورموك بالبئر وحيداً إلا من صلاة أمك، وتعويذتها. نجوت يا شاعري الحبيب من ظلمة البئر، وطلعت كوكباً وضاءاً وسامحتهم. سامحت أخوتك ووهبت لهم سر الفرح. حاولت بشعرك وكلامك تعليمهم كيف يزرعوا قمحاً ليكون رموشاً للأرض وخبزاً للحياة. لم يسمعوك فتفرقوا بددا.
إمضِ يا شاعري الحبيب بلا أسفٍ إلى حضن أمك. وأترك الحصان وحيداً انتظاراً لفارسٍ آخر. لقد أصبحت أنت والموت وجهٌ واحد!
أخيراً، لولا لا سمح الله، توفي فناناً أو فنانة، أو زعيماً من أسيادنا اللصوص من زعماء الأمة أو الوطن، هل ستتابع القنوات التلفزيونية برامجها بشكل روتيني؟ طبعاً لا، سوف يتصلون ويحضرون المحللون لتغطية ذلك المصاب الجلل، أما أن يتوقف قلب محمود درويش، شاعر المقاومة، ويترك حصان الشعر العربي وحيداً، فلا أحد يبالي من قنوات الإعلان العربي، ولا تذاع أي أغنية من شعره الذي أبدعه لحناً وغناءاً الفنان مارسيل خليفة.
يا أمة سخرت من جهلها الأمم!!
Leave a Reply