كان قد عاد إلى فلسطين مع من عادوا في أواسط التسعينات بعد سنوات المنفى الطويل، وسكن رام لله وعاش مطرها، وعشق طيورها وشجرها وطيبة أهلها. تغزّل بلوزها الأخضر وياسمينها وزعترها. وهذه المرة يعود محمود درويش إلى فلسطين للمرة الأخيرة. يعود صامتا مع أنه كان يود أن يقول الكثير عن رحلته الأخيرة. يا لحسرة القصيدة التي كبّـلها الموت ولم نعرف ماذا كان يريد أن يقول الشاعر! يا لحسرة الشعر بعد درويش! يا لارتباك اللغة وفداحة الخسارة!
في نوبة الموت الماضية عندما توقف قلبه عن الخفقان لدقيقتين عاد لنا بقصيدة، حاور فيها أخطبوط الموت كي يُمهله مزيدا من الوقت للعشق والكتابة. أما هذه المرة فصارت القصيدة كفنا، صار الشاعر جسد القصيدة وروحها وبوحها. بكت الكلمات واشتاقت الحروف لتشكيلات عاشقها الوفي.
تماما في اللحظة التي سمعت فيها الخبر بدأت السماء تمطر في الخارج، في مدينتي الأميركية بعيدا عن الوطن. يا للمفارقة الغريبة! كأن الدنيا أخذت تبكي أيضا.
أهو قوس حِداد تشكل من أقصى الكون إلى أقصاه؟ ماذا بعد الآن؟ من بعدك سيرسم أقمارا في ليلنا الطويل؟ من سيتمعن في ألوان الفراشة وأثرها؟ من سيقلقه عطش العصافير في تموز، وأرق شجرة الليمون من الخريف الوشيك؟
عندما التقيت به قبل سنوات في مكتبه في مركز خليل السكاكيني الثقافي في رام لله، كان يجمع بين رقة الشعر وروعة الإنسان وعذوبة الكلمة. عرفته مرهفا خجولا، إنسانا رقيقا، سامي النظرة متواضع القلب، بعيد الرؤية قريبا من الناس، يسكن قلوبهم كما لم يسكن شاعر آخر. عاد محمود درويش إلى حبيبتنا رام لله ليقول هنا أموت عشقا.. هنا أحيا عشقا. هذا الفارس الذي ترك الحصان وحيدا، وتمدد كجذر شجرة الزيتون عميقا للانهاية.
يا حضرة الغائب الساكن فينا، نمت ليلتك الأولى وحيدا. وكنا وحيدين مثلك، يتامى بدون حضرتك البهية. فوداعا للخبز الأخير ولفنجان القهوة الأخير الذي لم يرتشفه مع أمه، وداعا لنسمات رام لله الصيفية… لصباح رام لله الأخير. وداعا للوجع القادم من الأخوة. وداعا للأطفال الخائفين في طريقهم من البيت إلى المدرسة.
يا للإنسان الشاعر كيف تغيب هكذا وتتركنا في عراء الطرقات نبحث عنك!
كنا ننتظرك في كل أمسية عند زوايا الأرصفة، كما ينتظر الأطفال أباهم في الحافلة القادمة، ونحن نتفحص ملامحك الشاخصة نحو مكان لا أحد يعرف عنه شيئا سوى أنت، أيها الشاعر الذي لن يتكرر في هذا الزمن مرتين.
Leave a Reply