قوى «14 آذار» ما زالت على عقلية الثأر من دمشق
التبادل الاقتصادي لا الدبلوماسي فقط يعزز التعاون اللبناني-السوري
هل كانت صدفة ان تتزامن زيارة رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان الى سوريا، بعد يوم على نيل الحكومة ثقة مجلس النواب، وهي الصدفة نفسها التي فرضت على رئيس الحكومة فؤاد السنيورة ان يزور دمشق اثر نيل حكومته الثقة في مطلع آب من العام 2005، وبعد ثلاثة اشهر على انسحاب القوات السورية من لبنان نهاية نيسان من العام نفسه.
فقبل ثلاث سنوات ذهب السنيورة الى العاصمة السورية، التي هي ممر اجباري لعلاقات لبنان العربية، كونها ترتبط معه بروابط جغرافية واقتصادية واجتماعية وتاريخية، ويجمعها به مصير واحد في مواجهة العدو الاسرائيلي، ولانه لا تستقيم الاوضاع في لبنان، اذا كانت علاقته مع سوريا متوترة، او ان يتحول الى ارض معادية للدولة التوأم له، والعكس تماماً، لذلك فان مقولة الا يحكم لبنان من سوريا، او تحكم سوريا من لبنان، مقولة صحيحة، لجهة الا يحصل اختراق من اي من البلدين للبلد الآخر، حيث كانت ترتفع وتيرة التوتر بينهما، عندما كان يتم اكتشاف مؤامرة تدبر من اطراف معادية او على خصومة سياسية للنظام السياسي في كل منهما، وكانت الشكوى السورية تاريخياً، هي ان المؤامرات والانقلابات كانت تطبخ في بيروت التي كانت تستقبل معارضين للنظام في سوريا، اي نظام، وهذه الظاهرة انتشرت في الخمسينيات والستينيات وحتى منتصف السبعينيات، وهي عادت تطل بعد خروج القوات السورية من لبنان، اذ فتحت السلطة الممثلة بـ«تيار المستقبل» والحزب التقدمي الاشتراكي، الابواب للمعارضين للحكم في سوريا، ان يتخذوا من لبنان قاعدة لتدبير مؤامرات لزعزعة الوضع في سوريا، وقد تم افتتاح مركز للمعارضة السورية في لبنان من خلال النائب السابق في مجلس الشعب السوري، مأمون الحمصي، وشخصيات أخرى مما يسمى «جبهة الخلاص الوطني» التي يقودها نائب الرئيس السوري السابق عبد الحليم خدام مع «الاخوان المسلمين» الذين فتحت لهم مقرات، ووضعت بتصرفهم مع معارضين آخرين وسائل الاعلام التابعة لـ«تيار المستقبل» لتستخدم كأداة للتحريض على القيادة السورية، وهذا ما حصل عشية زيارة العماد سليمان لسوريا، حيث استضافت شاشة «المستقبل» خدام، لينفث سمومه ضد الرئيس الاسد والقيادة السورية.
وعندما زار السنيورة دمشق، فان اول ما تم الاتفاق عليه مع المسؤولين السوريين، هو وقف الحملات الإعلامية على سوريا من قبل قوى 14 شباط التي وصلت بانتقاداتها الى حد التجريح الشخصي، كما جاء في كلام النائب وليد جنبلاط في اكثر من مناسبة، وفي كلام اقل قسوة من النائب سعد الحريري، في حين رفع سمير جعجع العداء لسوريا واعتبرها هي العدو للبنان وليس اسرائيل. وهذه العدائية لسوريا تزامنت مع اضطهاد المواطنين السوريين، واستخدام عنصرية مستهجنة معهم، من ضرب واعتقال العمال السوريين عند كل حادث امني، واعتبرت هذه الارتكابات من قبل بعض الاطراف اللبنانية في السلطة، انها موجهة ضد سوريا، وان السنيورة الذي تعهد بان يعيد العلاقات الى طبيعتها، ويتم الفصل بينها وبين المحكمة الدولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري لم يفعل شيئاً، لا بل اندفع بالمشروع الاميركي ضد سوريا، وانحرف نحو «المحور العربي المعتدل» كما تسميه الادارة الاميركية، والذي يضم السعودية ومصر والاردن، وهذا المحور انشئ لمواجهة سوريا، واعتبرت السعودية وحلفاؤها، ان لبنان هو المكان الذي منه يمكن التأثير والضغط على القيادة السورية، واستغلال جريمة اغتيال الحريري ضدها، وهذا ما حصل فعلياً، مما ادخل العلاقات بين لبنان وسوريا في دائرة التوتر من قبل فريق الاغلبية النيابية الذي قرر خوض معركة تغيير النظام، وهو ما افصح عنه رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، وكشف عن انه ذهب اكثر من مرة الى واشنطن للعمل على اسقاط النظام في سوريا، لكنه جوبه باجوبة حاسمة، بان المطلوب تغيير سلوك النظام لا إسقاطه، وقد فهم جنبلاط، ان رهاناته فاشلة وان ما وعده به خدام كان من نسج الخيال، فخفف من حملته وانكفأ الى تدبير اموره في كيف سيفتح قنوات حوار مع القيادة السورية التي جاء ردها بالرفض، لانه تخطى الخط الأحمر في اندفاعه نحو قلب النظام، والتعاون مع أعداء سوريا.
وهكذا مرت السنوات الثلاث، ولم تهدأ قوى 14 شباط وعلى رأسها جنبلاط في تدبير المؤامرات على سوريا كما تقول قيادتها، التي استطاعت ان تجتاز كل الظروف الصعبة، منذ صدور القرار 1559 الذي طالبها بسحب قواتها من لبنان، الى القرارات الأخرى التي اصدرها مجلس الامن، وتطالبها بأن تقيم علاقات دبلوماسية، وألا تتدخل في الشؤون اللبنانية، اضافة الى قرارات اخرى فيها عقوبات، وكل ذلك بسبب دعم سوريا للمقاومة، وتسهيل مرور السلاح اليها عبر اراضيها.
لم ترضخ سوريا للتهديدات والضغوط والقرارات، ومنذ اغتيال الحريري ادركت قيادتها انها مستهدفة، فقررت سحب قواتها، وانعقد المجلس الاعلى اللبناني السوري في 5 آذار 2005، وقرر الموافقة على ما سبق وأعلنه الرئيس السوري بشار الاسد من عودة القوات الى سوريا، كما وافق المجلس الأعلى الذي ضم اضافة الى الرئيسين الاسد واميل لحود، رئيسي المجلسي النيابي والحكومة في لبنان نبيه بري وعمر كرامي، ورئيسي مجلس الشعب والحكومة في سوريا محمود الابرش ومحمد العطري، على اقامة علاقات دبلوماسية، بين الدولتين.
والتبادل الدبلوماسي، سبق ان طرحته سوريا على لبنان في العام 1962، لكن رئيس الحكومة آنذاك رشيد كرامي رفضه ، لأن العلاقة بين البلدين تتخطى اقامة سفارات، والروابط اكبر من ان تكون دبلوماسية التي ستعيق تنقل اللبنانيين والسوريين بين الدولتين، في وقت تتجه الدول الى الغاء الحدود بينها وفتحها.
وبعد اتفاق الطائف، الذي اورد فقرة اشارت إلى العلاقات المميزة بين البلدين، وكي لا تبقى في الاطار الشخصي وتفعل فيها المؤثرات الشخصية، تقرر من خلال القمم اللبنانية-السورية التي عقدت بين الرئيسين الياس الهراوي وحافظ الاسد والاتصالات بين القيادتين، ان ينشأ مجلس اعلى لبناني-سوري ينظم العلاقات، وهو يقترب الى مستوى ما هو قائم بين دول مجلس التعاون الخليجي، وداخل الاتحاد الاوروبي، بالرغم من وجود تبادل دبلوماسي، لأن الدول تتجه في علاقاتها نحو التكامل الاقتصادي، وهو ما قصده المجلس الاعلى اللبناني-السوري في عمله الذي تركز على التبادل التجاري والمسألة الجمركية، وتسهيل العبور عند الحدود وتخفيف القيود على مواطني البلدين، والبحث في تقاسم المياه وتحديداً مياه العاصي، اضافة الى الربط الكهربائي.
وقد حقق المجلس الأعلى خطوات متقدمة في هذا الاتجاه، لكن طغى الجانب الامني في كثير من الاحيان على الجانب الاقتصادي في العلاقة بين البلدين وتدخل اجهزة امنية سورية لمصلحة سياسيين لبنانيين، وهو ما ساهم في ان تحصل شوائب وارتكابات في العلاقات، والتي اعترف بأخطائها المسؤولون في البلدين، واكدوا على ضرورة تصحيحها، لكن قوى 14 شباط رأت ان العلاقات لكي تصبح ندية، يجب ان تنطلق من اعتراف سوري بلبنان، والتراجع عن فكرة ان لبنان انسلخ عن سوريا بفعل مؤامرة التقسيم التي حصلت في معاهدة سايس-بيكو، وكان الرد السوري هو بالاعتراف باتفاق الطائف الذي كرس لبنان وطناً نهائياً.
وما رفعته قوى 41 شباط من مطالب تعتبرها تصب في سيادة واستقلال لبنان، لم تكن سوريا تنظر اليها بنظرة معاكسة، حيث اقرت بالكيان اللبناني بحدوده التي رسمها الاستعمار، ورأت ان التكامل الاقتصادي هو الذي يقفز فوق الحدود، التي يريد «السياديون في لبنان» ترسيمها ظناً منهم انهم يتصدون لأطماع سوريا في لبنان وفق مزاعمهم، التي يعتقدون انها ما زالت تحلم بضمه اليها، وهذا الامر كان مرفوضاً من القيادة السورية وعلى رأسها الرئيس حافظ الاسد الذي رفض طلباً تقدم به اركان «الجبهة اللبنانية» المؤلفة من كميل شمعون وبيار الجميل وشخصيات اخرى، اقامة اتحاد كونفدرالي بين لبنان وسوريا في العام 1976على ان ينضم اليه الاردن، وكان جواب الاسد ان للبنان خصوصياته ونحن لا نهدف الى ضمه او الحاقه، بل الى منع تقسيمه وتحويله الى «اسرائيل ثانية».
ففكرة ضم لبنان اسقطتها القيادة السورية، وان كانت لا تعترف بمفاعيل التجزئة من منطلق قومي وفق عقيدة حزب البعث العربي الاشتراكي، لكنها تعاطت بواقعية سياسية، تقوم على ان انهاء مفاعيل التجزئة، من خلال التركيز على تفعيل الدورة الاقتصادية بين لبنان وسوريا وتوسيعها الى باقي المشرق العربي وصولاً الى سوق مشرقية، وهو مطلب الاقتصاديين اللبنانيين من صناعيين وتجار وزارعيين، بضرورة تنظيم العلاقات الاقتصادية بين دمشق وبيروت لان هناك سوقاً في سوريا يضم 20 مليون مواطن تستفيد منها الصادرات اللبنانية.
لذلك جاء انعقاد القمة اللبنانية-السورية بين الرئيسين سليمان والاسد، انطلاقاً من تصحيح العلاقة من الباب الاقتصادي، وان التبادل الدبلوماسي ليس هو الاساس، واذا كان فريق الاغلبية النيابية الحالية ينظر اليه على انه حقق فيه انتصارا سياسيا، باعتراف سوريا بلبنان، فان المسألة لا تتوقف هنا، بل على مرحلة ما بعد فتح السفارتين، وهي تفعيل العلاقات باتجاه التكامل الاقتصادي وهو ما اعلنه البيان المشترك الذي صدر عن قمة الرئيسين السوري واللبناني، وتخطى كل الاسباب الاخرى التي اعاقت قيام علاقة سليمة، لانها كانت تتعلق بظروف خارجة عن ارادة الشعبين اللبناني والسوري، ويتحمل مسؤولية اخطاء تلك المرحلة من امسك بما يسمى «الملف اللبناني» في سوريا وعلى رأسهم خدام يعاونه حكمت الشهابي وغازي كنعان، وكان لهم حلفاء في لبنان استفادوا سياسياً ومادياً ومعنوياً من وجود فريق في سوريا يؤمن لهم الخدمات السياسية والمالية، ومن ابرز هؤلاء المستفيدين جنبلاط ورفيق الحريري وآخرون.
وقد نجحت القمة اللبنانية-السورية في صياغة علاقة جديدة، بوابتها الاقتصاد، واعطى الرئيس الاسد للرئيس سليمان كل ما يريده، وتحديداً التبادل الدبلوماسي، دون الغاء المجلس الاعلى اللبناني-السوري الذي كان مطلب قوى 14 شباط، لان لهذا المجلس ضرورة متابعة ومراجعة اتفاقيات في اغلبها لمصلحة لبنان، وان اسقاطه يعني اسقاط هذه الاتفاقيات، كما ان وجوده لا يتناقض مع قيام سفارتين، حيث هناك تجارب في هذا المجال، ومنها مجلس التعاون الخليجي.
اسست القمة لعلاقات وصفحة جديدة، ولم تغص بالمواضيع المعقدة، مثل قضية المفقودين التي يجري استغلالها سياسياً وانسانياً، وان هذا الموضوع الذي وضع في يد لجنة مشتركة فيها قضاة وامنيون توصلت الى وضع ملفات بالأشخاص، على ان تعطى اجوبة حول وضع كل مفقود، لا سيما وانه مر اكثر من 33 عاماً على اختفاء اشخاص في ظل حروب متنقلة وحصول مجازر وعمليات تهجير، ودخول قوات عسكرية من مختلف الدول إلى لبنان.
اما مسألة ترسيم الحدود، فان الموقف السوري المبدئي هو معه، على ان يبدأ من الشمال، وان يتم في مزارع شبعا بعد تحريرها، وان سوريا سبق لها واعترفت بلبنانيتها، وعلى الامم المتحدة ان تخرج اسرائيل منها، لتحصل عملية الترسيم التي كانت قائمة منذ الاربعينيات وهناك وثائق لبنانية تؤكد ملكية لبنان للمزارع التي لا تعترض سوريا عليها وفق ما اكد مسؤولون فيها.
لقد شكلت قمة الرئيسين سليمان والاسد، بداية لتأسيس علاقة جديدة، تنهي مرحلة كانت حافلة بالايجابيات والسلبيات، لكن الايجابيات فيها اكثر وهي قامت على دعم المقاومة لطرد الاحتلال الاسرائيلي، وحفظ السلم الاهلي واعادة توحيد لبنان وعودة العمل الى المؤسسات الدستورية فيه.
Leave a Reply