قليلون هم الذين يلومون الروس على الحملة التأديبية التي شنّوها ضد نظام ساكاشفيلي الجورجي بعد الاستفزاز شبه القاتل الذي قام به عندما تجرأ على الاقلية الانفصالية القريبة من موسكو في مقاطعة اوسيتيا الجنوبية، مما ايقظ «الدب الروسي» النائم من خموله فاندفع الى داخل «معرض الخزف» الجورجي يعمل فيه تحطيماً.
فباستثناء الادارة الاميركية ونصائحها «المؤدَّبة» لموسكو بأن تتراجع عن تدخلها في ذلك البلد الاوروبي الحليف للاميركيين والخارج من الفلك السوفياتي القديم منذ انهيار الامبراطورية السوفياتية قبل 81 عاماً، توخى الاروبيون الحذر الشديد في مقاربة الازمة الروسية الجورجية لادراكهم لحساسية الروس تجاه اي لعب بالنار في حديقتهم الخلفية. فطار الرئيس الفرنسي الى موسكو بعدما كان وزير خارجيته كوشنير قد سبقه الى مواقع الاضطراب على الحدود الروسية – الجورجية، محاولاً اخماد الحريق الناشب من ذلك الجزء الحساس من القارة الذي تتحكم جغرافيته بمعابر النفط والغاز الى عموم انحاء اوروبا.
تراجع الروس ظل مع ذلك بطيئاً ولم تُجدِ التحذيرات الاميركية في ثني «الدب الهائج» عن مواصلة انتقامه من نظام ساكاشفيلي الذي ظهر ان الاسرائيليين تغلغلوا في كواليس قراراته السياسية والامنية، ولم يملك الروس الغاضبون سوى نصيحة الرئيس الاميركي بأن يغير كاتب خطاباته في استهتار واضح بالتحذيرات التي اطلقتها الادارة الجمهورية.
الاستفزازات الاميركية لنظام بوتين «الفولاذي» لم تكن تقتصر على «الخطأ القاتل» الذي ارتكبه الجورجيون في اوسيتيا، فحزام الحصار الاطلسي حول موسكو كان يضيق منذ ان سلم قائد البيروسترويكا السابق ميخائيل غورباتشيف تركة «الرجل السوفياتي المريض» الى خلفه بوريس يلتسن الذي شكلت سنوات حكمه لروسيا قمة الضعف لذلك البلد الاوروبي الذي تشظت قومياته العديدة بعد تراخي القبضة السوفياتية انطلاقاً من بولندا أواسط ثمانينات القرن الماضي مشكلة اولى ارهاصات خسارة الامبراطورية السوفياتية لـ«الحرب الباردة» مع المعسكر الرأسمالي.
ولقد دأبت الادارة الاميركية منذ سقوط الامبراطورية السوفياتية على تشجيع «الثورات الملونة» في دول الاتحاد المنهار ملحقة بعضها بحلف شمالي الاطلسي الذي انتهت وظيفته الرئيسة كندّ لحلف وارسو الشيوعي القديم وتحولت اهتماماته الى تجنيد دول الحلف المنهار في صفوفه لاحكام الخناق على اتحاد الجمهوريات الروسية وبالتالي تحويل الدب الروسي الى نعجة وديعة، ساعدها في ذلك وقوع هذا الاتحاد تحت قبضة المافيات المتوحشة في فترة الانتقال من الاقتصاد الموجه الى اقتصاد السوق الحرة.
غير ان رجل الـ«كاي جي بي» السابق القوي ولاعب الكارتيه فلاديمير بوتين نجح في اخراج روسيا من قبضة تلك المافيات مشرداً اعضاءها في منافي الارض ومحققاً قفزة كبيرة في استعادة روسيا لتوازنها وواضعاً اياها مجدداً على خارطة القوى الدولية الكبرى، وقد اسهمت السياسات الغبية للادارة الاميركية الحالية في توفير الفرصة الاولى للند الروسي السابق في عرض عضلاته القوية على الساحة الجورجية مذكرة بأزمة «خليج الخنازير» في العام 1691 لكن بطريقة معكوسة عندما تحدى الزعيم الشيوعي السوفياتي نيكيتا خروتشوف الاميركيين بنشر الصواريخ الروسية في الجزيرة الكوبية مما ادى انذاك الى استنفار نووي اميركي وتهديد من الرئيس جون اف. كينيدي باللجوء الى القوة لازالة تلك الصواريخ. لكن تراجع الزعيم السوفياتي ادى الى منع تحول الحرب الباردة الى حرب ساخنة كانت تنذر بعواقب وخيمة على العالم بأسره.
كأن الادارة الاميركية الحالية تعيد التاريخ للانتقام من الغطرسة السوفياتية القديمة بغطرسة مماثلة. ولعل مشهد وزيرة الخارجية الاميركية كوندوليسا رايس وهي تجمع القيادة البولونية قبل عدة ايام للتوقيع على معاهدة الدرع الصاروخية ينذر بما ستشهده تلك القارة ومناطق اخرى من العالم من صراعات في القادم من السنوات.
ولأن «عقيدة القوة» الروسية لم تتبدل منذ عهد هذا البلد بالقياصرة ثم بالثورة البلشفية ووصولاً الى حكم الثنائي بوتين – ميدفيديف فإن الادارة الاميركية سوف تكتشف ان المراهنة على «حكمة الروس» هو ضرب من المقامرة المكلفة على الامن والسلم العالميين.
قد لا يكون العالم امام «حرب باردة» جديدة في المدى المنظور بسبب عدم التكافؤ التقني بين الروس والاميركيين وحلفائهم الغربيين إلا ان الزمن قد لا يطول قبل ان يستفيق على تهديد كبير للامن والسلم الدوليين. انطلاقاً من منطقة القوقاز الفائقة الاهمية الاستراتيجية للقارة الاروربية برمتها.
غير ان سؤالاً محيراً يبقى بلا اجابة قاطعة عن اسباب تورط الادارة الاميركية واسرائيل في دفع الدولة الجورجية الهشة الى استفزاز الدب الروسي في هذه الظروف التي تشهد عدة حروب اميركية على «الارهاب» وفي ظل الجهود الاميركية والاسرائيلية لاقناع العالم وعلى رأسه روسيا بالذات بأهمية احتواء واضعاف انظمة مثل النظام الايراني الثوري الإسلامي. وهل كان الاميركيون والاسرائيليون يتوقعون ردة الفعل الروسية الغاضبة فتوخوا استدراج بوتين الى مستنقع حروب اقليات في منطقة القوقاز لالهاء روسيا عن خطط اميركية – اسرائيلية تعد للتدخل ولشن حروب في اكثر من منطقة خصوصاً في افريقيا والشرق الاوسط؟
فهل ضحى الاميركيون والاسرائيليون بالديموقراطية الجورجية كـ«طعم» لسنارة استدراج التدخل الروسي من اجل اغراق رجل الكرملين القوي في حروب وصراعات مع محيط ظل يكن اقسى انواع العداء للنزعة الامبراطورية الروسية؟ وهل يتحول بوتين الى «ستالين روسيا» الجديد في إحكام قبضته على الداخل الروسي وفي ممارسة السيطرة على منطقة القوقاز. وهل ينجح الاميركيون والاسرائيليون في الهاء الدب الروسي بـ«رقصة القوقاز» الدموية لكي يتسنى لهم التفرغ والتحكم بمنطقة الشرق الاوسط وبعض مناطق افريقيا (دارفور).
بعض التحليلات المبنية على التمنيات تجنح الى الاستنتاج ان «الخطأ الجورجي» الذي ارتكبته الادارة الاميركية ومعها اسرائيل سوف ينتج احلافاً ومحاور اقليمية في مناطق التوتر العالمية ويقدم فرصة ذهبية لـ«دول الممانعة» في الشرق الاوسط وغيره من المناطق للانتقام من الاستهداف الاميركي لها. لا يبعد عن هذه التحليلات الكلام المنسوب الى الرئيس السوري بشار الأسد الذي المح فيه عشية زيارته لموسكو الى استعداد سوريا «لاستضافة» انظمة صواريخ «روسية» وكلامه عن «وقوف سوريا بقوة مع روسيا» في مواجهة الاستفزاز الاميركي.
الا ان الحكمة تقتضي عدم تبسيط المعادلات الدولية و«تسريع» نشوئها في فضاءات الاعلام، لان هذه المعادلات ترسم على مدى سنوات طويلة ويكلف استقرارها ربما حياة الملايين من البشر. الم يسقط بضعة ملايين ضحايا ارتسام معادلة القوة الاحادية الجديدة منذ ما قبل وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي، من راواندا الى يوغوسلافيا السابقة الى افغانستان والعراق ودارفور؟
فكم من الضحايا ستقدم بعض مناطق الصراع في الجنوب الفقير على مذابح مصالح الشمال الغني؟
وهل تحتمل منطقة الشرق الاوسط تحديداً مزيداً من تجليات الحروب الباردة بين القوى الكبرى، اذا كان التبشير السائد ان «هزيمة جورجيا» ستتبعها هزائم اخرى، فيما لا يكلف العرب، خصوصا، انفسهم عناء السؤال عن اسباب «الغباء الاميركي والاسرائيلي في منطقة القوقاز؟ ألا يعقل ان يكون هذا «الغباء» من مقدمات «جنون» اميركي – اسرائيلي يخشى ان ما تبقى من «عقلاء» في هاتين الدولتين لن يكونوا قادرين على لجمه؟ ربما هذا ما يفسر «وجل» الرئيس الايراني احمدي نجاد خلال زيارته الاخيرة الى تركيا وتحذيره مما تعدّه الادارة الاميركية لبلاده.
وأغلب الظن انه عندما يتهيب شخص مثل احمدي نجاد خطورة المرحلة المقبلة، فإن «امراً ما» يحاك انطلاقاً من القوقاز وبولندا، ولا يستدعي التسرع بالاحتفال في دمشق او طهران او بيروت، حتى ولو سمعنا ان قطع الاسطول الروسي توجهت نحو البحر الابيض المتوسط.
هل نتذكر يو اس. اس. كول وخبر رحلتها الى الشواطئ اللبنانية قبل اشهر قليلة؟
وكيف سقطت «ثورة الارز» اللبنانية بعد تلك المرحلة بالضربة القاضية في شوارع بيروت؟
فإلى ان يصبح العرب ممثلين على المسرح الدولي، عليهم الامتناع عن التصفيق حتى ينجلي غبار التطورات. هذا لا ينفي بأن «الممانعة العربية» والدولية تلقت جرعة دعم، معنوي على الاقل، بعد «الدرس الجورجي» الذي لقنه بوتين لجورج بوش لكن حذار من جرعة زائدة قاتلة؟
Leave a Reply