قوى 14 شباط ترى نفسها دون حلفاء فـي العالم وانتهاء مفاعيل 1559
التحولات الدولية سرّعت المصالحة فـي طرابلس لمنع دمشق من استغلالها
قبل أربع سنوات صدر عن مجلس الأمن الدولي القرار 1559، الذي يطالب سوريا بسجب قواتها من لبنان، إضافة إلى نزع سلاح الميلشيات ورفض تعديل الدستور لمصلحة التمديد للرئيس إميل لحود.
في ذلك التاريخ في 2 أيلول عقد مجلس النواب جلسته لتعديل الدستور والتمديد للرئيس لحود، ولم يأبه الرئيس السوري بشار الأسد للتهديدات الخارجية، لا سيما الأميركية والفرنسية، التي التقت مصالحهما في لبنان، لمصلحة أطراف سياسية، قررت في لحظة إقليمية-دولية، الانقلاب على سوريا، والانخراط في مشروع أميركي للمنطقة سمي «الشرق الأوسط الجديد» الذي رفعه الرئيس جورج بوش تحت عنوان نشر الديموقراطية وإسقاط «الأنظمة الدكتاتورية»، فركب الرئيس رفيق الحريري والنائب وليد جنبلاط في مركب هذا المشروع، وكان سبقهما إليه «لقاء قرنة شهوان» برعاية البطريرك نصر الله صفير، وقد تمكن هذا الفريق الذي كوّن «لقاء البريستول» بعد انضمام الحريري وجنبلاط إليه، من أن يستفيد من التقارب الفرنسي-الأميركي الذي كرّسته قمة «النورماندي» بين الرئيسين جاك شيراك وبوش في حزيران 2004، واتفقا على أن يتقدما إلى مجلس الأمن بقرار يفرض على سوريا الاستجابة لشروطهما، وأبرزها نزع سلاح المقاومة، فجاءت صياغة القرار 1559 لتخدم ثلاثة أطراف هي: فرنسا في سحب القوات السورية إذا لم تؤمن سوريا مصالحها واستثماراتها، وأميركا ومعها إسرائيل بتجريد المقاومة من سلاحها تحت اسم عدم وجود سلاح غير شرعي باسم الميلشيات، والرئيس الحريري وجنبلاط و«لقاء قرنة شهوان» برفض التمديد للرئيس لحود.
اجتمعت الأطراف الثلاثة في بنود القرار 1559 الذي سبّب صدوره انقساماً ما بين اللبنانيين، وأشعل فتنة بينهم ما زالت قائمة، وأدت إلى حصول اغتيالات ومحاولات اغتيال وتفجيرات ومعارك سياسية وطائفية ومذهبية متنقلة.
لقد صدر هذا القرار، ونفذت سوريا بقرار من قيادتها ما يتعلق بوجود قواتها في لبنان، فسحبتها، بعدما أيقنت أنها مستهدفة في أمنها، وأن الضغوط عليها ستزداد إذا لم تغير سلوكها لجهة السير في المشروع الأميركي، والامتناع عن دعم المقاومة وفك تحالفها مع إيران.
لم ترضخ القيادة السورية للضغوط والعقوبات التي فرضت عليها، وتمسكت بالثوابت الوطنية والقومية، واستطاعت أن تحافظ على موقعها في المعادلة العربية والإقليمية، فنجحت في عقد القمة العربية في دمشق، بالرغم من محاولات تعطيلها عربياً (السعودية، مصر والأردن) ودولياً (الولايات المتحدة)، وأثبتت أنها مفتاح الحل لأزمات المنطقة من لبنان إلى فلسطين والعراق، وباعتراف مسؤولين أميركيين كبار، وعلى رأسهم رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي وهي من الحزب الديموقراطي، فزارت سوريا وفتحت حواراً مع قيادتها يؤسس لمرحلة مجيء رئيس ديموقراطي إلى البيت الأبيض للمشاركة في إيجاد حلول للصراع العربي-الإسرائيلي، وللاحتلال الأميركي للعراق، الذي أكد تقرير لجنة بايكر-هاملتون. إن سوريا كما إيران لهما الدور الأساسي والفعّال في تأمين انسحاب مشرّف للقوات الأميركية التي فقدت أكثر من ثلاثة آلاف قتيل.
صمدت سوريا أربع سنوات، وبدأت أبوابها تفتح أمام الوفود الأجنبية، وكان أول الزائرين الأجانب الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الذي أعلن أن عهده سيقطع مع السياسة الماضية لبلاده، التي ارتبطت فيها العلاقات الشخصية، كما فعل شيراك مع آل الحريري، وكاد أن يهدد مصالح فرنسا في المنطقة.
كانت النقلة النوعية التي حصلت في إعادة العلاقات الفرنسية-السورية، أن الرئيس الأسد فتح كل الطرق المسدودة أمام حل الأزمة اللبنانية وأعطى وعوداً لعدد من الدول ومنها فرنسا بأنه سيكون مساهماً أساسياً في دعم الوفاق بين اللبنانيين وتسهيل أي حل يقبلون به، فوفى بوعوده، فكان اتفاق الدوحة نتيجة جهود سورية وقطرية وفرنسية، أمّنت الحل المرتكز على مبادرة فرنسية حملها وزير الخارجية برنار كوشنير، وهي تنطلق من مبادرة الجامعة العربية التي أقّرها وزراء الخارجية العرب في القاهرة التي جاءت حصيلة اتصالات لبنانية داخلية سوّق خلالها لا سيما الرئيس نبيه بري لفكرة انتخاب المرشح التوافقي، وكان اسم العماد ميشال سليمان متقدماً مقابل سقوط أسماء مرشحي المعارضة والموالاة، على أن يعقب ذلك تأليف حكومة وحدة وطنية بثلث ضامن للمعارضة وإقرارها قانون انتخاب على أساس قانون 1960 لطمأنة المسيحيين لمرحلة انتقالية.
هذه المبادئ للتسوية شجعت عليها سوريا، ولاقت ترحيباً من فرنسا ورعاية عربية من قطر، في وقت كانت السعودية بعيدة عن الحل، لأنها كانت ترفض دوراً لسوريا فيها، لكنها فشلت بذلك بسبب الدور السوري المؤثر في الساحة اللبنانية، من خلال وجود حلفاء لسوريا لهم حضورهم على الصعيدين الشعبي والسياسي، وهذا ما ساعدها على أن تلعب دوراً إيجابياً جاء لمصلحة حلفائها، في الوقت الذي كان فيه حلفاء أميركا ضائعين ويقدمون التنازل تلو الآخر أمام المعارضة التي صمدت عامين لتحقيق مطالبها في المشاركة في الحكم وحفظ المقاومة وحماية سلاحها.
مع التقدم الذي أحرزه حل الأزمة اللبنانية، رأت فرنسا أن تتوجه إلى سوريا، فوجه الرئيس ساركوزي دعوة للرئيس الأسد لحضور احتفالات «الثورة الفرنسية» وقمة «الاتحاد من أجل المتوسط»، لأن بنود الحل كانت قبل أشهر من اتفاق الدوحة بالتعاون مع السعودية، لأن النتائج ستكون على حساب حلفائها وبدء خسارتها في لبنان، مقابل تحالف سوري-فرنسي-قطري، فتمكن هذا الثلاثي وفي الوقت الضائع للإدارة الأميركية الحالية، التي بدأت تكبّلها الانتخابات الرئاسية الأميركية، إضافة إلى الإخفاقات والخسائر التي تتكبدها في العراق وأفغانستان وفلسطين ولبنان، وعودة روسيا كدولة عظمى بدأت تلغي الأحادية الأميركية في العالم إلى جانب الصين، كل هذه العوامل ساهمت في أن يتقدم الدور الفرنسي على الدور الأميركي دون أن يلغي تأثيره نهائياً، بل ينسق معه، بما يحفظ مصالح فرنسا.
وهكذا نجحت سوريا وفرنسا بأن يقاربا حل الأزمة اللبنانية، وهو ما فرض عليهما أن يدخلا من هذه البوابة إلى تكوين شراكة بينهما لتقديم حلول لأزمات المنطقة، من الوضع في فلسطين إلى العراق إلى الملف النووي الإيراني، وبالرغم من أن المواقف ليست متقاربة، وهناك تباعد بين نظرة كل منهما إلى بعض المسائل، ومنها البرنامج النووي الإيراني، إلا أن ذلك لم يمنع من أن يؤسسا لتصوّر مشترك، لا سيما أن البلدين يجمعهما «الاتحاد من أجل المتوسط»، هذه الفكرة التي أطلقها ساركوزي من أجل أن يعطي لفرنسا وزناً دولياً، يساعدها على أن تكون القطب الأوروبي الأقوى، حيث تعوّل سوريا على دور أوروبي منعزل أو مستقل عن المشاريع الأميركية التي هي مشاريع إسرائيلية.
والشراكة الفرنسية-السورية، تُرجمت بإدخال أطراف فاعلة، للمساعدة في إعطاء دفع لها، فكانت مشاركة قطر كرئيس لمجلس التعاون الخليجي لهذه الدورة، وتركيا كدولة إقليمية لها موقع استراتيجي كرابط بين أوروبا وآسيا والعالم العربي، وقد كان انعقاد القمة الرباعية حدثاً كبيراً، ونظرت إليها أميركا بحذر بالرغم من أن ساركوزي لمّح إلى أنه أبلغ بوش بها، ولم تكن بعض الدول العربية راضية عنها كالسعودية ومصر، وقد خطفت منها الأضواء، وأن تلعب قطر دوراً أيضاً، وهو ما يزعج حكام السعودية، كما أن المحادثات التي جرت في هذه القمة، كانت حول المفاوضات غير المباشرة التي تجري بين سوريا وإسرائيل عبر الوسيط التركي الذي حضر القمة بهذه الصفة.
إلا أن الغضب حول حصول القمة في دمشق، ومجيء ساركوزي إليها، كان من نصيب قوى 41 شباط التي كالت الاتهامات للرئيس الفرنسي، وشنت حملة عليه، لا سيما من رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي الذي تذكر أنه قبل أربع سنوات كان يلوح هو وأنصاره بالعلم الفرنسي في المختارة، ويقول: لم نعد وحدنا في العالم ولا بدّ من الصمود، فإذا به يتطلع حوله، فلا يرى معه حلفاء من العالم، فأميركا التي راهن على مشروعها، تتراجع في العالم، وهي لم تتمكن من إنقاذ حلفائها في لبنان عندما تعرضوا لضربة عسكرية وسياسية من المعارضة في لبنان في 7 أيار الماضي، كما يتطلع جنبلاط فيشاهد كيف يتساقط حلفاء أميركا في العالم وتحديداً في جمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقاً، وعودة روسيا إلى دور دولي، لن يتمكن زعيم المختارة من أن يعيد تحالفه معها، بعدما ربط نفسه بالإدارة الأميركية التي تعمل على تهديد الأمن القومي لروسيا من خلال جيرانها وإنشاء قواعد عسكرية فيها.
لقد أصيب فريق الأغلبية في لبنان بصدمة، وهم يرون العالم يتحول، وكانوا يراهنون على أن المشروع الأميركي سيكون له النصر في العراق والمنطقة، فإذا به يتقهقر، وفرنسا تقترب من مصالحها وتوقع سبع اتفاقيات مع سوريا، وتبتعد عنهم وهو ما دفع بجنبلاط إلى سلوك طريق الهدوء وتخفيف لهجة خطابه بالدعوة إلى الحوار، وحماية المقاومة وتأجيل البحث بسلاحها.
شعرت قوى 41 شباط بأن ما رفعته من شعارات قد اندثر، فالقرار 1559 تهاوى، ولم يعد لـ«ثورة الأرز» معنى، والمحكمة الدولية قد تضيع في لعبة مصالح الأمم، وأن النظام في سوريا بات أقوى وحضوره في لبنان أفضل مما كانت القوات السورية موجودة فيه، وأن تغييره ليس وارداً دولياً وإقليمياً، ولا مناخ شعبياً سورياً لذلك، وأن المعارضة السورية «فقاقيع صابون».
لكل هذه التطورات، انخفضت مطالب 41 شباط، وهي تقدم التنازل تلو التنازل للمعارضة، والتحذير الذي أطلقه الرئيس الأسد من خطورة التطرف الإسلامي في الشمال، وأن لا استقرار في لبنان بوجوده، كان رسالة تلقاها جنبلاط والحريري بكثير من الجدية، أن سوريا قد تعود إلى لبنان، وأن الرئيس الأسد عندما قال إنه طلب من الرئيس اللبناني تعزيز الجيش في طرابلس، لإدراكه مدى الخطر الذي يتهدد الجيش أولاً من الأصولية الإسلامية، التي تتوجه أصابع الاتهام إليها بأنها وراء اغتيال اللواء فرنسوا الحاج وتفجير حافلة الجنود في طربلس، وأن هذه الأعمال الإرهابية هي امتددا لما جرى في مخيم نهر البارد.
إن استعجال الحريري إجراء المصالحة في طرابلس والشمال، اعتراف منه بوجود المعارضة ودورها، وإن الساحة السنية ليست وقفاً عليه، وهو يمثل جزءاً منها، وقد استجاب رئيس «تيار المستقبل» لنصيحة حليفه جنبلاط، بأن يستلحق نفسه بإنهاء الوضع الشاذ في طرابلس، لأن فكرة الانتقام ممّا حصل في بيروت، فشلت، لأن استمرار القتال ومحاصرة جبل محسن ذات الغالبية العلوية، ومحاولة تهجير العلويين من طرابلس والشمال، ستدفع بسوريا إلى حماية هذه الأقلية، وعندها يصبح مبرر دخولها إلى لبنان قائماً، لمحاربة الإرهاب والتطرف الإسلامي، وسيلقى هذا الدخول ترحيباً دولياً وعربياً.
Leave a Reply