تحية إلى عريس الأرض الشهيد إبراهيم حسين خليلإستشهد يوم 61 أيلول عام 5891الوقت عصراً، السماء ملبدة بغيوم ايلول الخفيفة. القرية الصغيرة تغمرها كآبة أوائل الخريف. تلاشت أصوات الطيور وكفّ الجراد عن إلقاء قصائد الحصاد. جمع الفلاحون غلاتهم ومواسمهم التي لم يحرقها القصف. القليل من كروم العنب والتين لم تأتِ عليها نيران الإحتلال الإسرائيلي وعملاؤه الموجودون في التلة المقابلة للقرية، المسلحون بكل العتاد والأسلحة. زاد ذلك من خوف الفلاحين والقليل من سكان البلدة، وقلّل شعورهم بالأمان. وكان باعثاً للإكتئاب وجعل الحياة رتيبة خالية من الحيوية كل يوم بعد العصر.البيت الصغير البعيد في تلك القرية يلفّه سكون العصر. الدرب الطويل إليه، تبدو مهجورة منذ زمن. ما زال على شرفته، بضع قرنفلات ملأ عبيرها الجو مختلطاً برائحة الحبق والزعتر.في الداخل، بكاء الطفل الصغير أزعج السكون المطبق على البيت. كأن الطفل أدرك أن أمه قد انتهت للتو من عملها. تجاهلت الأم بكاءه نظرت من النافذة نحو البعيد. تساءلت ماذا يخبيء هذا البعيد؟ هذا المدى المترامي: ماذا يحدث فيه الآن؟ متى يبدأ الموّال من قصفٍ مسائي؟ سيبدأ، أجابت نفسها. اليوم الأحد، لا بد أن «الشباب» المحتلين، يأخذون الآن قسطاً من الراحة على التلة، بعد قصفهم ليلة البارحة العنيف للقرى المجاورة وكان نصيب هذه القرية الجميلة النصيب الأكبر من هدم البيوت وحرق كروم الزيتون وموت بقرات أحد الفلاحين.الطفل يبكي. يصرخ. تدخل الأم بتثاقل إلى غرفته. تبتسم له. يدرك الطفل أنها تبتسم بصعوبة، فلا يبادلها الإبتسام. العبوس يلف وجهه البريء. قسمات الأم يلفها غموض واكتئاب عميق. تحمل الطفل بين يديها، تنظر إليه، ترى وجه أخيها، نفس الوجه، نفس العينين الواسعتين الوضائتين اللتين تفيضان أملاً وفرحاً.تنسى طفلها وتذكر أخاها صار عمره الآن عشرون سنة. ما يزال يسكن في قلبها كطفل ولد منذ أيام. تحضن الطفل بمحبة وحنان كأنها تحضن أخاها. تبكي بصمت. تسمع طرقاً على الباب. تسأل الطفل: من سيأتي من البعيد الآن؟ بحذر وخوفٍ تفتح الباب، رأته. رأت أخاها واقفاً كبرجٍ من نور أضاء الكون كله، يفيض من عينيه الجميلتين الواسعتين نهر من أمل وفرح. ناولها عنقود عنب كان بيده. أخذ الطفل من يديها وحمله بحب وشوق. كمن يشعر بصدمة لذيذة نظرت ثانية إلى أخيها. كان وجهه يشع إبتساماً وحيوية ومن عنقه تتدلى سلسلة كان قلما يلبسها!تجمدت وهي تنظر إليه، لم تشعر بالفرح أو الدهشة. فقط نظرت إلى عينيه الفرحتين ولم تصدق أن المستحيل أحياناً يغدو واقعاً. أطالت النظر إليه وهو يقبّل الطفل ويحتضنه محاولاً إخفاء دموعه وفرحه. ضمته إلى صدرها وقلبها وضمت الطفل قائلة: يا أخي، يا حبيبي هذا الطفل دوماً يذكرني بك. أنت ولدي ولست أخي، وسألته: ما بك يا حبيبي هل ثمة شيء؟؟إنتبهت إلى أنه كان يرتدي ثيابه بأناقة وترتيب. بدا لها كعريسٍ ليلة عرسه، سألته أن يدخل إلى البيت، أجاب:لا، عليّ أن أذهب بسرعة. كما تعلمين الوضع الأمني متوتر جداً، عندي موعد، جئت مسرعاً أودعك وأودع هذا الملاك الصغير!!موعد؟ موعد مع من يا حبيبي؟ تساءلت بلهفة. ضحك بأعلى صوته: ألا تعرفين؟ أعطاها الطفل، تناول عنقود العنب من يدها أخذ نصفه وأعطاها النصف الآخر. نسيت أن تسأله من أين أتى بهذا العنقود، وهي تحمل الطفل احتضنها. أمطرها بدموعه وقبلاته وقفل راجعاً من حيث أتى. بقيت واقفة على الباب تنظر إليه حتى لفه المدى البعيد وأخفى الغموض ملامحه وغمر الكون الظلام.
في أعماقها كان هاتف يكسر الصمت والسكون الذي تركه أخوها، جعلها تعتقد إنها لآخر مرة رأته، ولن تراه في القريب مرة أخرى.في منتصف تلك الليلة، كان العريس يسير نحو ليلة زفافه لأرض الوطن الذي أحبه على صوت قذيفة وتفجير عن بعد داخل الشريط الحدودي من جنوب لبنان المحتل من قبل العدو الإسرائيلي وعملائه.تلك الليلة لم تسمع الأم أصوات قصفٍ، كان صوت إنفجار القذائف والرصاص والمدافع بعيدا عن القرية الصغيرة والبيت البعيد، لكن بكاء طفلها المستمر أنذر بالنهاية. أخوها الذي ظنت إنه ذاهب لموعدٍ غرامي، إنما كان ذاهباً لموعدٍ للقاء أرض وتراب الجنوب، جنوب لبنان. منح أرض وتراب جنوبه حبه وجسده ودمه، فزاد ذلك التراب طهراً وخصباً ورفضاً لأقدام الإحتلال وأعوانه.في اليوم التالي شاع الخبر في القرية الصغيرة حتى وصل إلى البيت البعيد، في عملية نوعية داخل الشريط المحتل من جنوب لبنان إستشهد ثلاثة من الأبطال. كان أخوها واحداً منهم. أجساد الثلاثة تمزقت أشلاؤها واتحدت مع كل ذرة تراب. دمهم سقى كل أشجار وأعشاب كروم الجنوب التي حرقها العدو الإسرائيلي بنيران غضبه وحقده، لتحيا وتورق في أوائل الربيع القادم.ثلاث وعشرون صار عمر الطفل. ثلاث وعشرون سنة لم تزهر قرنفلات شرفة ذلك البيت البعيد. غناء الطيور حزين والسواد يلّف المدى في عيون الأم. في منتصف شهر أيلول، كل سنة، تعيد الأم سيرة إستشهاد أخيها لولدها كصلاة لا تمل من تلاوتها. وكلما نظرت إلى عيني ولدها لاح وجه أخيها من البعيد، تشع من عينيه أنوار الأمل والفرح!!
Leave a Reply