إن تأمل الفتوى التي أطلقها الشيخ محمد صالح المنجد ضد الفأر الشهير ميكي ماوس يأخذنا، بلا شك، إلى مناطق ملتبسة، مناطق يرتفع فيها الضحك والألم والغضب والسخرية إلى أعلى المستويات، وبشكل يعيدنا، بشراً وثقافة وأوطاناً، إلى المربع الأول. فتوى تنتمي إلى قائمة فتاوى من ذلك النوع: إرضاع الكبير، تكفير كل من يقول بكروية الأرض، حرمانية وجود ممثل مع ممثلة في مشهد تلفزيوني بدون محرم، ألخ..فتاوى تفتح الباب على السؤال: ما (ومن) الذي يحكم عملية الإفتاء؟ لنحصل على جواب طويل ينطوي على كل أشكال المعرفة والحكمة والتبصر والتقوى. جواب لا يستطيع بدوره أن يدحض أحاسيسنا بأن من يتحكم بعملية الإفتاء هي اللحى الطويلة وحدها، من دون أن نتمتع بالجرأة التي تمتع بها شاعر في صدر الإسلام، فنردد معه:ألا ليت اللحى كانت حشيشاً فترعاها خيول المسلمينا!!..
***ولكن حقاً، إذا كان صعباً أن نجزم بأن «الفئران هم جند إبليس» على حد قول الشيخ المنجد، فإلى أي حد يمكن الجزم بأن مشاهدة الأطفال العرب (والمسلمين) لأفلام الكرتون (ميكي ماوس، وتوم وجيري مثالاً) تؤدي إلى توليد مشاعر حميمة تجاه الفئران، وتعمل على المدى البعيد على خلخلة البنيان الشعوري والوجداني عند الطفل المسلم فيشعر بالتعاطف مع الفئران بدل الالتزام بالواجب الديني الذي يأمره بقتلها. وفي مستوى آخر، إلى حد يؤدي التعامل اليومي مع «فأرة» الكمبيوتر إلى جعل هذه المفردة (الفأرة) مفردة حميمة في قاموسنا اليومي، أو الفني، أو الأدبي؟! حتى الآن لم أسمع، أو أقرأ، لأحد يخاطب حبيبته بالقول: يا فأرتي الجميلة!.. *** نعم، إن السيكولوجيا تعترف بآثار الأعمال الأدبية والفنية، ولكن بشرط وجود الرسالة الفنية المؤثرة في النص الأدبي والفني. لقد شاهد ملايين الأطفال العرب مسلسل الأطفال الشهير: افتح يا سمسم، من دون أن يعرفوا فيما إذا كان نعمان أرنباً أو ضفدعاً أو غزالاً، واستقر في أذهانهم أن نعمان طفل بدين وحسب، والسبب عدم وجود رسالة فنية واضحة. أما الرسالة الفنية في أفلام توم وجيري فهي موجودة وقوية. والرسالة ببساطة تقول إنه يمكن الانتصار على الطبيعة. فإذا كانت الطبيعة تقول إن القوي ينتصر على الضعيف، والكبير يهزم الصغير، فإن أفلام توم وجيري (حيث الفأر يهزم القط دائماً) تقول إن الذكاء ينتصر على القوة، والحنكة على الضخامة. بكلمات أخرى.. الرسالة الفنية هنا هي التأكيد على القوة الداخلية عند البشر التي قد تترجمها الأجسام بطريقة خاطئة(!!..) وواضح أن الكثيرين لم يتمتعوا بالذكاء المناسب لرصد هذه الرسالة والتقاطها.رغم ساعات المشاهدة الطويلة التي يقضيها الطفل العربي أمام شاشات التلفزيون، إذ ليس لديه ما يفعله، فلا أظن أن تلميذاً كتب في ورقة إجابته المدرسية: إن الفأر يأكل القط. وما زلت أعتقد أن الأطفال يلتقطون الرسائل بطريقة أفضل بكثير مما نفعل نحن، ومما يفعل شيخنا!..***وكان من تداعيات هذه الحادثة أن قامت بعض وسائل الإعلام الغربية المقروءة والمرئية بنقلها والتعليق عليها، بحضور كميات إضافية من الدهشة والسخرية والاستغراب ما قد يسبب المرارة لدى البعض. وما من شك أن الكثيرين من الغيورين على ثقافتنا وديننا سينبرون إلى تصحيح الصورة، أو وضعها في السياق الصحيح. والصحيح أن الصورة قاتمة، وأن السياق محكوم بالفوضى والعبثية. ومن المتوقع أيضاً حضور كليشهات من زمن غابر وأعرج، من قبيل: «إن مثل هذه الأصوات لا تمثل ثقافتنا وتجربتنا الحضارية..» ومن ثم المرور على «المؤامرات التي تتربص بنا» إضافة إلى بعض التعابير «المودرن»، كالحوار ولقاء الحضارات..في حين يجدر بنا أن نتحلى بالشجاعة الملائمة لنعترف.. كيف يتم «تصنيع» مثقفين وبرلمانيين وإعلاميين وفنانين ورجال دين، ألخ، في بلداننا. وكيف يتم زجهم في الحياة العامة تحت شعارات التنمية البشرية والثقافية، فضلاً عن شعارات أخرى بات يعرفها القاصي والداني. متكلمون وأكاديميون ومهرطقون ومشعوذون وعصابيون وخبراء عسكريون واستراتيجيون وطباخون وطبالون وزمارون على مدار الساعة، في الجرائد والقنوات الفضائية، وحلقات ومقابلات وريبورتاجات لا تنتهي إلا بسبب ضيق الوقت..وما من نتائج!..***كتب الشاعر السوري نزيه أبو عفش، مواطِن الشيخ المنجد، في إحدى قصائده: «لقد فسد الهواء في المبنى». أما إذا كانت تعنينا تجارب الآخرين، فيمكننا أن نردد مع تشي غيفارا: «إنها ليس أوطاناً، إنها فناءات خلفية وحسب!..».***في القرن التاسع عشر، غزت الفئران مدينة استنبول، فقام الأتراك باستقدام باخرة من القطط الشامية لمعالجة الأزمة، ونجحت الخطة. وقبل عدة سنين فقط غزت الفئران دولة الصين، فاقترحت الحكومة أن يقدم كل عريس صيني فأراً مقتولاً إلى عروسه كجزء من المهر، ونجحت الخطة أيضاً.تحكم الآخرين ضرورات الحياة، وتحكمنا أصغر الهوامش، في أكثر الكتب صفرة.
Leave a Reply