المناظرة الرئاسية الأولى بين باراك أوباما وجون ماكين والتي أجريت مساء الجمعة السادس والعشرين من أيلول (سبتمبر) لم تكشف عن أي مواقف جديدة للمرشحين الرئاسيين خاصة على صعيد السياسية الخارجية، حيث اكتفى كل مرشح بتكرار مواقفهالمعروفة منذ بداية السباق الرئاسي في أوائل عام 2007 وحتى الآن.
الجديد هو أن المناظرة وضعت المرشحين الرئاسيين أمام بعضهما في مواجهة كان ينتظرها الناخب الأميركي وكثير من المتابعين عبر العالم، وذلك لكي يشاهدوا كيف سيتعامل المرشحان مع بعضهما بعضا، ومن سيمتلك الكلمة العليا.
وهنا يبدو أن كثير من أنصار المرشح الديمقراطي باراك أوباما قد أصيبوا بالإحباط أو خيبة الأمل بعد أدائه في مناظرة الأمس، وذلك لأن أوباما لجأ في كثير من الأحيان للدفاع عن مواقفه واتهام ماكين بالكذب ولي عنق الحقيقية وتصريحات أوباما في مواجهة اتهامات ماكين المتواصلة والتي كانت بمثابة لكمات قوية يوجهها ملاكم محترف لأوباما المثقف الأكاديمي الذي ألقى بنفسه في حلبه مصارعة سياسية.
وقد بدا هذا واضحا عند مناقشة مواقف المرشحين من إيران، حيث سخر ماكين من أوباما لأنه يريد اللقاء مع الرئيس الإيراني أحمدي نجاد «بلا شروط»، وهو أمر وضع أوباما في موقف الدفاع عن أرائه أمام ماكين، مؤكدا أنه لن يلتقي مع أحمدي نجاد بدون ترتيب مسبق.
وقد حاول أوباما الهجوم على ماكين في أكثر من مناسبة خاصة فيما يتعلق بموقف ماكين المساند لحرب العراق منذ بدايتها وبسبب تجاهله لمشكلة أفغانستان وأهمية القضاء على القاعدة والقبض على قادتها قبل فتح جبهة جديدة بالعراق.
وعلى الرغم من أن أوباما بدا في كثير من الأحيان وأنه يمتلك الحقيقة من وجهة نظر معارضي الحرب، إلا أنه بدا على شاشات التلفاز هادئا وكأنه أستاذ جامعي يلقي محاضرة في مواجهة سياسي شرس يكيل له الاتهامات واللكمات وهو جون ماكين.
وهو أمر أزعج وربما أحبط كثير من مناصري أوباما والذين كانوا يتمنون أن يوجه أوباما في المناظرة الأولى ضربة قاضية لماكين الذي يعاني في عيون الناخبين الأميركيين – وفقا لأحدث الاستطلاعات – بسبب أزمة الاقتصاد الأميركي الحالية والتي تذكر الأميركيين بأخطاء بوش والجمهوريين العديدة والمستمرة.
لذا بدا ماكين في بداية المناظرة دفاعيا مضطربا لأن الجزء الأول من المناظرة خصص للحديث عن أوضاع الاقتصاد الأميركي، ولكنه عاد ليمتلك ناصية الحديث وليضع أوباما في موقف الدفاع في نهاية المناظرة والتي ركزت على قضايا السياسية الخارجية.
فهل يعني ذلك أن أوباما خسر أمام ماكين؟ وأن الأخير قد وضع نفسه على بداية الطريق للبيت الأبيض من خلال أدائه المتميز في المناظرة؟
الإجابة هي «لا» لأسباب عديدة، أولها أن أوباما على الرغم من لجوئه للدفاع في أحيان كثيرة فإنه بدا هادئا غير غاضبا، معتدلا غير ثائرا، وهي صورة يحرص على الظهور بها في مواجهة الشائعات التي تروج حول خلفيته وتحاول تصوريه كسياسي أسود من أصول مسلمة يريد تقويض النظام الأميركي وإحلاله بنظام جديد ليبرالي يرضي أعداء أميركا.
بمعنى أخر، كثير من الجمهوريين والمستقلين الذين شاهدوا اللقاء سوف يخرجون بشعور مفاده أن أوباما سياسي هادئ له وجهة نظر مخالفة لنظرة ماكين والجمهوريين، ولكنه سياسي معتدل يميل للدبلوماسية بوضوح ولكنه لا تبنى أي سياسات راديكالية معادية لأميركا.
ثانيا: كثير من المتابعين عبر العالم تغافلوا قدرات جون ماكين منذ بداية السباق لكونه يعبر عن الحزب الجمهوري الغارق حتى قمة رأسه في فضائح ومشاكل إدارة بوش العديدة، والحقيقة أن ماكين سياسي مختلف، وقد أكدنا ذلك في مرات عديدة، وتعرضنا له بالتفصيل في دراستنا الأخيرة «جون ماكين والشرق الأوسط والولاية الثالثة للمحافظين الجدد»، وقلنا أن الحزب الجمهوري دفع بماكين مضطرا في الانتخابات الحالية، لأن ماكين سياسي جمهوري غير تقليدي، وأنه قادر على جذب أصوات المستقلين وبعض الديمقراطيين، وأن خلفية ماكين السياسية تجعل منه سياسي صعب المنال، فالرجل صاحب مواقف ذكية وشخصية مستقلة ودراية واسعة بالسياسية الخارجية الأميركية، وهو أمر ظهر بوضوح في المناظرة الأولى.
فقدرات ماكين السياسية تفوق كثير من قادة الحزب الجمهوري من أمثال بوش ورودي جولياني ومت رومني، فهو رجل محنك بمعنى الكلمة وصاحب مواقف مزيج بين الليبرالية والمحافظة، واعتقد أن مهمة أوباما كانت سوف تكون أسهل لو واجه واحد من الثلاثة السابقين في مناظرة مباشرة، ولكن الجمهوريين اختاروا له شخص لا يرضون عنه بشكل كامل، وهو ماكين، على أمل الحفاظ على البيت الأبيض.
ثالثا: المناظرة الأولى كانت بمثابة تذكير بأن أميركا والرأي العام الأميركي تحركا نحو اليمين في السنوات الأخيرة، وأن الحديث عن الشر وأعداء أميركا الخارجيين وتسميتهم والتأكيد على أهمية مواجهتهم هو أمر مازال يلقى رواجا لدى الأميركيين أو لدى قطاع كبير منهم، لذا لم يجد ماكين غضاضة في التأكيد على مواقف المتشددة ضد روسيا وإيران أو عن رغبته في إعادة بناء النظام الدولي ضمن ما يسميه بعصبة الديمقراطيات، وهي أحلام يمينية كبرى، يروجها ماكين وعجز عن فضحها أوباما وكأن الدبلوماسية، من وجهة نظر الأميركيين، باتت عيبا وإستراتيجية ضعيفة يجب تبريرها قبل اللجوء إليها.
رابعا: ماكين مازال يواجه مشاكل عديدة على رأسها وضع الاقتصاد الأميركي المتردي وحالة الغضب التي تجتاح المجتمع الأميركي بسبب سياسات الجمهوريين وبوش، وهو أمر سوف يفيد أوباما، وبالطبع سوف يطالبه مستشاريه بالتخلي قليلا عن هدوئه وقبعته الجامعية، والنزول للمعترك السياسي ومهاجمة ماكين في المناظرتين المتبقيتين واللتين سوف تركزان على قضايا السياسة الخارجية.
بقى أن نقول أن أحد مميزات الانتخابات الرئاسية الحالية هو طبيعتها الدراماتيكية، فقد فاز أوباما بترشيح الديمقراطيين بعد صراع طويل داخل الحزب مع أحد أشهر قياداته وهي هيلاري كلينتون وزوجها واللذان يتمتعان بشهرة عالمية، ولكي يصبح أوباما أول أفريقي أميركي يصل لهذا الموقع في التاريخ.
وبعد فوزه الصعب بترشيح الديمقراطيين وجد أوباما نفسه متقدما بفارق واضح على ماكين والذي فاز بسهولة بترشيح حزبه الجمهوري، ولكن ماكين عاد واستعاد مكانته في الانتخابات الرئاسية قبيل مؤتمرات الحزبين في نهاية تموز (يوليو) الماضي ليعود ويفقدها مجددا بسبب الأزمة الطاحنة التي يتعرض لها الاقتصاد الأميركي، ثم يعود ليجدد أماله بعد المناظرة الأولى التي حاول تأجيلها بحجة التركيز على حل أزمة الاقتصاد الأميركي بواشنطن، إنها حقا إثارة كبيرة تضاف إلى أهمية الانتخابات التاريخية التي تحظى بمتابعة كبيرة عبر العالم من الآن وحتى الرابع من تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل.
علاء بيومي، باحث في الشؤون الأميركية،
ومؤلف كتاب «جون ماكين والشرق الأوسط والولاية الثالثة للمحافظين الجدد»
Leave a Reply