اوروبا تتداعى لتحصين نفسها.. والكونغرس الاميركي
يكمل الاستعدادات لعقد قرانه على «خطة الإنقاذ»
هل يشهد العالم حروباً وتوترات نتيجة الاعتلال الخطير
في صحة النظام المالي الاميركي؟
سألني بعض الاصدقاء والقراء، خلال لقاءات عابرة او اتصالات هاتفية عن سبب انكفائي «النسبي» في الآونة الاخيرة عن التطرق الى الموضوعات العربية لصالح التركيز على الاوضاع الاميركية، الانتخابية اولاً، والمالية لاحقاً.
ورغم ابداء هؤلاء «اهتمامهم» بالشأن الاميركي وتقديرهم لـ«قيمة» ما تطرقت اليه مؤخراً، خصوصاً ازمة النظام المالي الاميركي، إلا انه لم يكن من الصعب اكتشاف ميولهم نحو اهتمام متواصل بالكتابة عن موضوع الصراع الشرق اوسطي، والذي بات ينطوي على عدة «ازمات» ابرزها اللبنانية، العراقية، والفلسطينية، بما هي ازمات «داخلية» ناجمة عن عمليات «تخصيب» للأزمة الأم، ازمة الصراع العربي – الاسرائيلي، قبل ان تصبح بدورها ازمة الصراع الفلسطيني-الاسرائيلي، ولتنداح لاحقاً لصالح ازمة الصراع الفلسطيني – الفلسطيني، حول رؤيتين مختلفتين لسبل ادارته بوجه المحتل ومغتصب والحقوق، ناهيك عن ازمة الملف النووي الايراني وارتباطها بصورة مباشرة بذلك الصراع.
والواقع ان الكاتب، اي كاتب، لا يمكنه الاحاطة، بالتحليل والرأي، بذلك الكم المتراكم من الازمات، في مقالة اسبوعية، تتزاحم الى اولوية الاهتمام في متنها مجموعة هائلة من الاسئلة والظواهر والتطورات المتوالدة على مدار الساعة، في عالم يشهد متغيرات لا تبدأ بالقلق على المناخ، بسبب ظاهرة الاحتباس الحراري، ولا تنتهي بازمة مالية اميركية – عالمية تهدد الاستقرار الاقتصادي الكوني بكوارث حقيقية، جراء مخاطر انهيار البورصة الاميركية التي لاحت قبل مدة وجيزة.
والحال انني شخصياً استهولت ما شهدته الساحة المالية الاميركية في الاسابيع القليلة الماضية، ووجدتني أسير تداعياتها الخطيرة، بمتابعة قلقة، ساعة بساعة، ويوماً بيوم، مع كل مهتم بهذا الشأن الخطير، الذي لم يشهده الاميركيون منذ عهدهم «بالركود الكبير» في مستهل ثلاثينيات القرن الماضي.
والحال ايضاِ، ان عدداً كبيراً من ابناء المجتمع العربي في هذه المنطقة ممن يبدون اهتماماً بمقالتي الاسبوعية، كانوا متلهفين لمزيد من الايضاحات حول اسباب الازمة المالية واعراضها ومآلاتها على صورة اسئلة نهمة وقلقة عليك ان تجيب عنها بقدر كبير من الدقة قد لا يتوافر إلا عند خبراء المال و«الراسخين في علم الرأسمالية» ودهاليزها.
كنت بـ«حسي اليساري» قد شرعت، بين التصديق والانكار، بتوصيف «الخطى الثورية» التي اقدمت عليها الحكومة الاميركية بإزاء الأزمة المالية المندلعة من بورصة وول ستريت، ب«الاجراءات الاشتراكية» التي وقعت ادارة الرئيس بوش على محاسنها فجأة، قبل ان استمع بعد ايام قليلة الى احد أعضاء الكونغرس الاميركي الجمهوريين وهو يتحدث بنبرة غاضبة عن «خطة الانقاذ» التي طرحها وزير الخزانة الاميركية بولسون على مجلس النواب لسحب 700 مليار دولار من اموال الخزينة العامة لنجدة بعض المؤسسات المالية والمصرفية المترنحة تحت وطأة ازمة القروض العقارية، حينما قال: «هذه (الخطة) ليست اميركية، انها اشتراكية مالية ..» ولم البث ان احسست بشيء من الاطمئنان الى صدق حدسي وانا استذكر ما ظننت انني «تسرعت» بالادلاء به امام مجموعة من الاصدقاء، عندما وصفت التدخل الحكومي الاميركي في بدايات الازمة بـ«عملية تأميم» حكومية على الطريقة الاشتراكية.
حتى الآن لم اتمكن من الخروج من اسر ازمة النظام المالي الاميركي، وهي ازمة كلما حاولت الابتعاد عنها اقتربت منك. فكل شيء في اميركا (والعالم) معلق على الاتجاه الذي ستسلكه، ومن السذاجة ادارة الظهر لهذا الكم الهائل من التغطية الاعلامية على مدار الساعة والانصراف الى الحديث عن «المصالحات اللبنانية» (مثلاً) ومدى تأثيرها على السلم والاقتصاد العالميين! والكل يعرف ان «الحوار الوطني» الذي افتتحه الرئيس سليمان في قصر بعبدا قبل ثلاثة أسابيع لم يكن اكثر من خطوة شكلية لرفع العتب وتحقيقا لرغبة رئاسية في اعادة بعض الاعتبار الى قصر جمهوري كانت تصفر فيه رياح الفراغ لأشهر طويلة. مثلما يعلم الكل ايضاً، ان المصالحة الفلسطينية بين «حماس» و«فتح» التي يعمل على انجازها الاشقاء المصريون ليست سوى طبخة حصى بانتظار الفرصة السانحة لـ«حماس» من اجل الانقضاض على الضفة الغربية وضمها الى قطاع غزة «المحرر» من غريمتها حركة فتح او العكس بالعكس. ولا يخفى ايضاً وايضاً، ان لعبة الشد والارخاء بين ادارة بوش والحكومة العراقية برئاسة المالكي حول صفقة الاتفاقية الامنية وشروطها وتفاصيلها، مؤجلة حتى انتهاء ولاية الرئيس الاميركي وربما الى ما بعدها. وقد سمعنا من البنتاغون مؤخراً ان الاوضاع في العراق قد تعود الى الانفلات بسبب النزاع الدموي على السلطة والموارد بين «الشعوب» العراقية المتناحرة.
والاميركيون تحولوا في الاسابيع القليلة الماضية عن الاهتمام بما يجري في بغداد وقندهار الى منهاتن الاميركية لرصد تطورات اوضاع الاسواق المالية بنبض يصعد ويهبط مع مؤشرات البورصة التي شهدت انحدارات جادة وغير مسبوقة منذ نحو 80 عاماً، بعد رفض مجلس النواب الاميركي لخطة الانقاذ المالية بأكثرية جمهورية ومشاركة اقلية ديموقراطية.
الخطوة التي اقدم عليها المشرعون الاميركيون الاسبوع الماضي، فاقمت من حال الهلع وفقدان الثقة بالنظام المالي والمصرفي الاميركي فارتفعت اصوات «مسؤولة» من ضفتي الكونغرس تدعو الى عدم الاستهانة بالنتائج الكارثية لعرقلة الخطة الحكومية لامتصاص «الارصدة السامة» التي تجري في عروق المؤسسات المالية والمصرفية والتي تجعلها تلفظ اي قروض جديدة واردة الى دورتها، سواء كانت قروضاً لشراء منزل او سيارة او قسط جامعي.
وكان على رأس تلك الاصوات مرشحاً الرئاسة الجمهوري السناتور ماكين، والديموقراطي السناتور اوباما، وهذه حالة نادرة في تاريخ الحملات الانتخابية الاميركية.
وإذ أسند المرشحان القول بالفعل فصوّتا على الخطة الى جانب 73 من زملائهما في مجلس الشيوخ ليل الاربعاء الماضي، انفرجت قليلا بعض الأسارير المتجهمة في عالم المال بانتظار ان تنتقل العدوى الايجابية من قاعة مجلس الشيوخ الى قاعة مجلس النواب مجدداً يوم الجمعة لاعادة التصويت على الخطة التي احتفظت بجوهرها وعدلت قليلاً في اخراجها لتعكس اهتماماً بالشارع العمومي الاميركي (ماين ستريت) على هامش الاقدام لنجدة الشارع الخصوصي المتمثل بـ«وول (ستريت) وحيتان المال الذين علقوا في شبكة ازمة القروض العقارية وحاولوا عبثاً السباحة مجدداً خارجها.
الأزمة المندلعة حالياً في اسواق المال، ليست شأناً اميركياً وحسب، والاطلسي الذي ظل يفصل القارة الاميركية عن معظم مشاكل العالم لم يعد كذلك. فأمواج المد (التسونامي) على الشواطئ المالية لجزيرة منهاتن وصلت الى الضفة الاخرى من الاطلسي مهددة اسواق المال الاوروبية بانهيارات مماثلة، حدث بعضها في بريطانيا والمانيا وبلجيكا وجبل الانهيارات لا يزال على جرار الأزمة.
الاوروبيون استنفروا طاقاتهم لمواجهة الاعصار المالي القادم اليهم من احد شوارع منهاتن ولكنهم انقسموا حول انجع السبل لمواجهة المخاطر الماثلة. ألمانيا تعاملت ببرودة اعصاب مع الازمة المالية الاميركية رغم انهيار احد بنوكها الكبيرة واعلان افلاسه، غير ان الرئاسة الفرنسية تفاعلت مع الحدث الاميركي بصورة اكبر، واحدث ما اقترحته قمة اوروبية لبحث الأزمة المالية العالمية يوم السبت بمشاركة رؤساء دول وحكومات الدول الاوروبية الاربع في مجموعة السبع وهم زعماء فرنسا والمانيا وبريطانيا وايطاليا، الى جانب رؤساء المفوضية الاوروبية والمجموعة الاوروبية والمصرف المركزي الاوروبي.
ثمة افتراح فرنسي بانشاء صندوق مشترك لانقاذ المصارف المهددة بالافلاس، رغم نفي وزيرة الاقتصاد الفرنسية لهذا الاقتراح. غير ان الصحف الهولندية كشفت عن اقتراح تقدم به الهولنديون يقضي باستثمار كل بلد اوروبي نحو ثلاثة بالمئة من اجمالي ناتجه المحلي في الصندوق.
المال العربي (الخليجي) بمصارفه ومؤسساته وقف حائراً امام الاجراءات الامريكية والاوروبية، ولربما اسهم تصويت مجلس النواب الاميركي لاحقاً على خطة الادارة في «تحرير المال العربي» من قفص المخاوف الذي وضع نفسه وراء قضبانه. وقد نشهد اندفاعه قوية لمليارات النفط باتجاه السوق الاميركية والاوروبية بعد ان تهدأ المخاوف وتعاد الازمة الى نطاق السيطرة والتحكم.
غير ان اي انفراج وشيك في الازمة الماثلة لن يعني عودة الامور الى طبيعتها خلال يوم او اسبوع او شهر. فأكثر التقديرات تفاؤلاً تتوقع اشهراً طويلة من الالم في الاسواق المالية وتبقى الامور مرهونة «بخواتيمها».
فالازمة ليست عارضاً اعتيادياً في الاسواق المالية الاميركية ثم الاوروبية والعالمية بل انها ازمة نظام مالي في كل الدول الرأسمالية افصح عنها الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي ودعا الى اعادة نظر جذرية في اساسيات قيامه وطرق عمله.
وتبقى الانعكاسات السياسية لأزمة اميركا والغرب المالية والاقتصادية وهي انعكاسات سوف تعبر عن نفسها بأوجه عديدة ليس اقلها اعادة خلط اوراق المواقف وسلم الاوليات في اكثر من بقعة من بقع التوتر والازمات في العالم، خصوصاً في مناطق الشرق الاوسط وافريقيا التي تضم بلدان النفط الرئيسة، حيث من المحتمل ان يخبو التوتر في اماكن ويندلع في اماكن اخرى، فالتاريخ المعاصر يعلمنا ان تحريك ادوات الانتاج الراكدة، في المجتمعات الصناعية الغنية يستلزم اندلاع حروب وازمات في اكثر من بقعة واستغلال بؤر التوتر القائمة لاطلاق وتغذية نزاعات قديمة وجديدة. ومنطقة الشرق الاوسط واحدة من تلك البقع التي قد تدفع اثماناً باهظة للاعتلال الخطير في صحة النظام المالي الاميركي والاوروبي وهي اكثر «نموذجية» لحروب الكر والفر العبثية في ظل الانقسامات العرقية والدينية والمذهبية التي تستشري في كيانات عديدة من السودان الذي تنظر المحكمة الجنائية الدولية في امر اعتقال رئيسه، الى العراق وايران ودول الخليج وفلسطين وسوريا ولبنان حيث شبح الفتن المذهبية يهيمن على اجوائها وبعدما يبست آخر حقول الانتماء الوطني والقومي لتتحول الى هشيم ينتظر اول شرارة نار قد يقدحها المتربصون بثروات تلك الدول، وشعوبها.
Leave a Reply