واشنطن تزوّده بسلاح للاستخدام الداخلي فقط
منذ أن تمكنت أميركا عبر «ثورة الأرز»، من أن تمسك بالأغلبية في مجلس النواب، ثم القرار في الحكومة الأولى بعد الانتخابات النيابية السابقة، قررت السيطرة على الجيش والأجهزة الأمنية الرسمية، وتغيير عقيدتها القتالية بوجه إسرائيل، وإلغاء معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق مع سوريا، وبالتالي فك الارتباط بين الجيشين اللبناني والسوري، ولاحقاً المسار والمصير الواحد للبلدين.
كان التركيز الأميركي على المؤسسة العسكرية، التي عليها أن تواجه الميليشيات أو ما يسمى بـ«السلاح غير الشرعي» أو حصر السلاح بيد الدولة وإلغاء «الدويلات»، وكل ذلك يصب في اتجاه واحد وهو نزع سلاح المقاومة أولاً، ثم تطهير المخيمات الفلسطينية من السلاح والمسلحين، وللقيام بهذه المهمة لا بدّ من وجود جيش قوي معزز بالسلاح والعتاد والعناصر البشرية التي يجب أن يعاد تأهيلها وتنشئتها على عقيدة محاربة «الإرهاب»، أي المقاومة وفق التوصيف الأميركي.
فبعدما اطمأنت الإدارة الأميركية إلى قيام سلطة تابعة لها من قوى 14 شباط، وإمساكها بالقرار السياسي، بات على هذه السلطة أن تعيد بناء الجيش على الأسس التي تطلبها واشنطن، واجتثاث كل الحقبة السورية من المؤسسات، وتحديداً من الجيش والأجهزة الأمنية، فنجحت حكومة «ثورة الأرز» في قوى الأمن الداخلي، وفشلت في المؤسسة العسكرية، بالرغم من التشكيلات التي طالت ضباطاً كانوا فاعلين في مرحلة النظام الأمني اللبناني-السوري المشترك، لأن قائد الجيش العماد ميشال سليمان وقف بوجه حرف الجيش عن عقيدته القتالية التي تربى عليها ما بعد اتفاق الطائف، كما لم يقبل أن يتراجع عن استمرار التعاون مع الجيش السوري، فأبقى على المكتب العسكري الخاص بهذه العلاقات والتنسيق برئاسة العميد مروان بيطار، وواصل سياسة التكامل مع المقاومة التي يؤمن بها وما زال بعد انتخابه رئيساً للجمهورية، وطرحها كعنوان لاستراتيجية دفاعية في افتتاح مؤتمر الحوار الوطني في القصر الجمهوري.
لم تتمكن الولايات المتحدة من تغيير نهج الجيش وسلوكه، كما فشل حلفاؤها في لبنان في تبديل عقيدته، أو في وضعه بمواجهة المقاومة كما هو مطلوب منهم لتنفيذ القرار 1559، وقد شعروا بأن المؤسسة العسكرية تنقسم على نفسها وتتشتت، وحذرهم من ذلك العماد سليمان، ونبههم إلى أن يبعدوا السياسة عنها، ويبقوها خارج التجاذبات السياسية، وهو سيضعها على مسافة واحدة من الجميع، وأن لا تتورط في الصراعات الداخلية حفاظاً على وحدتها، ونجح في ذلك، وهذا ما فتح باب رئاسة الجمهورية أمامه كمرشح توافقي.
ولما لم تنجح الإدارة الأميركية وحلفاؤها في لبنان في أخذ الجيش إلى الموقع الذي يريدونه له، خفضوا من حجم تسليحه وبات المطلوب تزويده بأسلحة لمهام داخلية، وهو الدور الذي تريده له واشنطن ولا ترغب بأكثر من ذلك، لأنه ليس مطلوباً منه القيام بدور دفاعي قي وجه العدو الإسرائيلي، بل أن يكون حرس حدود للكيان الصهيوني، ما دام اتفاق الهدنة هو الذي سيطبق، وهذا ما يطالب به النائب وليد جنبلاط وحلفاؤه، ولذلك فإن الجيش ليس بحاجة لسلاح ثقيل ومتطور ودفاعي، وقد حدد اتفاق الهدنة حجم العتاد العسكري الذي يجب أن يكون بحوزة الجيش جنوب نهر الليطاني، عدد من الشاحنات وسيارات النقل الصغيرة وعدد محدود من المدافع وناقلات الجند، ولكنها للمراقبة والحراسة.
لذلك فإن تسليح الجيش يجب أن يتوافق مع وظيفته، فإذا كانت للاستخدام الداخلي، فهناك مواصفات للسلاح، أما لمواجهة العدو الإسرائيلي فنوعية التسليح تختلف، وهذه العناوين ستكون مدار بحث ونقاش أثناء البحث في الاستراتيجية الدفاعية على طاولة الحوار، حيث سيبرز الخلاف بين وجهتي نظر متباعدتين كثيراً، وقد جاء مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط ديفيد هيل، ليرسم سقف هذه الاستراتيجية عندما أعلن أن أميركا لن تزود الجيش بالسلاح الثقيل، أي بصواريخ أرض جو، ولا بقاذفات صواريخ دفاعية ضد الدبابات ولا بطائرات حربية ولا بزوارق، ولا بأي سلاح يمكن أن يستخدم بوجه إسرائيل، أو أن يقع في يد المقاومة لتستخدمه هي، وهذا ما حذر منه قادة العدو الإسرائيلي المسؤولين الأميركيين عند الحديث عن تسليح الجيش اللبناني، في الوقت الذي حصلت إسرائيل مؤخراً على «رادارات» يصل مداها إلى إيران، وعلى طائرات حربية متطورة، إضافة إلى صواريخ وغيرها، وما قيمته 3 مليارات دولار، وهذه المساعدة تقدم سنوياً ومنذ عقود، فيما المساعدة الأميركية للبنان لم تتجاوز الـ500 مليون دولار وصل منها أسلحة بقيمة 400 مليون دولار، صرفت على شراء 110 شاحنات وناقلات جند وذخائر، وتم التوقيع على اتفاقية تعاون بين الجيش الأميركي واللبناني، بقيمة 36 مليون دولار لشراء زيوت وذخائر، وأُلّفت لجنة عسكرية مشتركة أثناء الزيارة التي قامت بها مساعدة وزير الدفاع ماري بث لونغ من أجل درس حاجة لبنان للطوافات لاحقاً، حيث تردد أن الإدارة الأميركية وافقت على بيع لبنان 12 طائرة مروحية من نوع «كوبرا» وهي موجودة في الأردن.
ولم يستجب الوفد العسكري الأميركي لطلبات لبنان لتزويده بأسلحة دفاعية وتحديداً صواريخ مضادة للدبابات، وأخرى مضادة للطائرات وسلاح للقتال الليلي عبر مناظير ليلية وطائرات مروحية وقتالية، وقد رد الأميركيون على هذه الطلبات بأنها مستحيلة التنفيذ، لأن المطلوب جيش يواجه «الإرهاب» ومن ضمن الحرب الأميركية على «الإرهاب»، بعد ان خاض الجيش تجربة ناجحة في هذا الإطار في مخيم نهر البارد، ضد تنظيم «فتح الإسلام» المرتبط فكرياً وتنظيمياً بـ«القاعدة»، لكن واجهته صعوبات ميدانية ولوجستية ونقص في السلاح والذخيرة، وفي الطائرات المروحية، مما أطال المعركة وسقط عدد كبير من الشهداء للجيش الذي اضطر إلى تدمير أجزاء كبرى من المخيم.
ويبدو أن النجاح الذي حققه الجيش في معركة مخيم نهر البارد، هو ما استدعى انتباه الإدارة الأميركية للمهمة التي تريدها له، وسيكون السلاح تحت هذا السقف، ولم تمانع من تزويده بالطائرات المروحية والمناظير الليلية.
لكن القرار ليس أميركياً في تسليح الجيش الذي يمكنه أن يحصل عليه من دول أخرى وحتى من السوق السوداء، وإن الاستراتيجية الدفاعية هي التي ستقرر نوع السلاح الذي سيقتنيه، وهذا ما سيتقرر خلال الحوار في القصر الجمهوري، بعدما تم التوافق على أن إسرائيل هي العدو، ولا بدّ من التكامل بين الجيش والمقاومة لمواجهته.
لقد فشلت الإدارة الأميركية وحلفاؤها في لبنان، في تحويل الجيش إلى نقيض للمقاومة، ولم تنجح في فك تنسيقه مع الجيش السوري، لا بل تعزز بعد القمة اللبنانية -السورية، وإن الحقبة الأميركية في لبنان انتهت، وسقط معها مشروع وصاية عليه، وإقامة مكتب تنسيق عسكري أميركي في وزارة الدفاع، لأنه يمس بسيادة لبنان واستقلاله وقراره الحر، ولأن مهمته ستتركز للتجسس على المقاومة ومعرفة أماكن قواعدها ونوع سلاحها وعدد صواريخها ومقرات قياداتها.
Leave a Reply