الانهيارات المالية والتراجع الاقتصادي ومؤشرات الكساد، التي تمر بها الولايات المتحدة، ومن بعدها أوروبا والعالم، تبدو للناس العاديين ليست كلها شراً، فأسعار البنزين والمحروقات في محطات الوقود الأميركية تتهاوى بشكل دراماتيكي يوماً بعد يوم، وساعة بعد أخرى، بعد أن وصلت إلى زهاء خمسة دولارات للغالون الواحد قبل عدة أسابيع، وهي متوقع لها أن تهبط إلى دولارين في وقت قريب، ذلك يعكس تباطؤ الطلب العالمي على هذه المادة الاستراتيجية وما يعني ذلك من آليات السوق الرأسمالية القائمة على العرض والطلب.
الأزمة المالية الراهنة كشفت ادعاءات مزيفة طالما روجت لها الدول المنتجة للنفط، من أن ارتفاع أسعار الطاقة ناتج عن مضاربات في أسواق البورصة في نيويورك وطوكيو ولندن، وليس بسبب الارتفاع الهائل في سعر برميل الخام والذي تعدى في ذروته حاجز الـ130 دولاراً، وتسبب قبل انبلاج الأزمة المالية الحالية، في خلق أزمة غذاء طالت مئات الملايين من الفقراء في أرجاء العالم، نتيجة ارتفاع أسعار القمح والأرز والسكر والزيوت النباتية وكافة مستلزمات العيش، كادت تلك الأزمة أن تعصف بأنظمة وتشعل ثورات خبز، كما حصل في مصر حين لم يعد الناس فيها يجدون رغيفاً يسدوا به الرمق. وعليه فإن أسعار المواد الغذائية هبطت أو هو مقدر له لها أن تهبط في ظل الأزمة المالية وتراجع الأسعار، وذلك من شأنه إسعاد الطبقات الفقيرة في أميركا والعالم، مثلما أسعدهم هبوط سعر البنزين، وكذلك أسعار تدفئة المنازل وتبريدها، وأسعار السفر بالطائرات.
أزمة الرهون العقارية في أميركا، وهي بالطبع متلازمة مع الأزمة المالية أو سابقة لها، كان لها ضحاياها أميركيون خسروا منازلهم، لكنها أفادت آخرين ومكنتهم من شراء منازل بأسعار حقيقية وفتحت عيونهم على جملة شروط وبنود تيسر لهم الإفلات من جشع الطامعين وخداع المحتالين.
قليل من الكساد يفيد أيضاً في كبح جماح الأنماط الاستهلاكية السائدة في معظم بلدان العالم، إذ لا يعقل أن يصرف دولة نامية مثل لبنان مثلاً مليارات الدولارات سنوياً على الهاتف المحمول، في الوقت الذي تعاني فيه البلاد من أزمة ديون خارجية تصل إلى 44 ملياراً، وأكثر من نصف سكانها يعانون من فقر مدقع، كذلك الحال في مصر والأردن والمغرب ودول أخرى يكابد فقراؤها الجوع والبطالة والجهل والمرض، فيما الأثرياء فيها مشغولون بإدخال الاستثمارات الاستهلاكية البلهاء، كمطاعم الوجبات السريعة الأميركية و«المولات» والنوادي الليلية ومعارض السيارات الفاخرة، والفضائيات ليتسنى لصاحبات الأجساد الفاتنة عرض أصواتهن «الشجية» على ملايين المشاهدين.
مرحباً بالكساد إذا كان سيتسبب في انخفاض أسعار الوقود والغذاء والمنازل، مرحبا به إذا كبح جماح التضخم وانتفاخ الأسعار، وأهلآ به إذا أضحى للدولارات القليلة قيمة في جيوب الكادحين للحصول عليها، فما للناس وما يحصل في البورصات والبنوك الاستثمارية وانخفاض مستوى السيولة في الأسواق ما دامت غائبة دوماً عن متناول أيديهم (هذا هو لسان حال الناس في الشارع)، أهلاً بتدخل الدول في شؤون الأسواق الحرة، فذلك من شأنه تحقيق نسبة ولو ضئيلة من العدالة الاجتماعية، ويا ليت تسفر هذه العاصفة المالية التي تمر بها الدنيا عن التحول لواقع جديد في العلاقات الاقتصادية والمالية بين دول متقدمة وأخرى نامية وبين منتجين ومستهلكين، وبين أثرياء ومعدمين.
محمد حسين الرموني
Leave a Reply