يبدو أن لعبة الدومينو في أقصى حالاتها إثارة. خاصة، بعد انهيار مؤسسات مالية عملاقة وشركات إقراض عريقة شكّلت محركات ومفاصل في الاقتصاد الأميركي على مدى عقود طويلة من الزمن، لدرجة أنه تم إيقاظ كارل ماركس من موت عميق واستدعاؤه عبر رسالة رئاسية عاجلة إلى وول ستريت، ليقوم ببعض الإسعافات الأولية، ريثما يتم تحضير غرفة العمليات.
المشهد الاقتصادي، بكل تداعيات الأزمة، يستحق التأمل وتدوين بعض الملاحظات:
* العرب خائفون. العرب بكل أصولهم وقبائلهم ومضارب خيامهم، بمن فيهم أؤلئك القاطنون هنا، وليس سبب خوفهم.. تضرر مصالحهم الاقتصادية واهتزاز أوضاعهم المالية. بل خائفون بالعدوى. العدوى من تخوف الآخرين وتوجسهم من النتائج القادمة. زد على ذلك.. حس العرب التراجيدي ومبالغاتهم العاطفية القادمة أصلاً من بلاغات آفلة. ففي الوقت الذي يجري الأطباء الجراحون عملية قلب مفتوح، فإن العرب الذين يشاهدون العملية عبر شاشات التلفزة يندبون ويسفحون الدموع. دموع تربطها علاقات وثيقة وصلات قربى بتلك الدموع التي سفحوها على المشاهد العاطفية في مسلسل «سنوات الضياع»..
فما علاقتنا نحن بكل ما يجري، طالما أن مفردات، كالبطالة، والتضخم، والبورصة، وغيرها.. مفردات غير حاضرة (أو فاعلة) في قاموسنا وتخطيطنا الاقتصادي، أو هي في أحسن الأحوال مفردات بمثابة ألغاز في فعالياتنا الاقتصادية، لدرجة أن بعض الأنظمة العربية لا تسمح لبرلماناتها بمناقشة الموازنة العامة، فضلاً عن أن أرقام البطالة والتضخم والنمو الاقتصادي يتم التعامل معها بصيغة بوليسية وكواليسية.
* إن الرأسمالية، كنظرية اقتصادية، ورغم كل تلك الصفات التي ترعرعت في حناجرنا وملأت صحفنا ومنابرنا (بدءاَ من الامبريالية ووصولاً إلى المتوحشة)، بالرغم من كل ذلك، مكنت العالم الغربي (الولايات المتحدة خصوصاً).. من التحكم بناصية العالم وقيادته. فضلاً عن الرأسمالية نفسها، وبكمية إضافية من الجرأة، دفعت كاتباً من طراز فرنسيس فوكوياما للقول بنهاية التاريخ.
إن الرأسمالية عملت على احتضان الحريات وضخها في العمليات السياسية والثقافية والاجتماعية، وهي المنظومة التي قوّضت «الإيديولوجيا» وحوّلت الطبقات الحاكمة إلى أقليات سياسية. ففي الدول الرأسمالية تتحول «السياسة» نفسها إلى نتيجة لمقدمات عدة، الاقتصاد من أهمها. وذلك على خلاف دولنا العربية.. حيث «السياسة» هي المقدمة التي تنتج كل شيء: الثقافة والاقتصاد والقيم الاجتماعية والأخلاقية.. عملاً بمعايير القرون الوسطى حيث القائد هو الأب والراعي والملهم.. ألخ.
* يكاد يكون تخطيطنا الاقتصادي، في دولنا العربية، قائماً على التأمل والوحي الاقتصادي في غياب دراسات واحصائيات حقيقية، ربما تأثراً.. بالتأمل والوحي الشعري القائم في صلب ثقافتنا. والغريب أن «أولي الأمر» والراسخون في السلطة.. قاوموا نظريات اقتصادية عملاقة بكل ضراوة ويقين حتى تحولت بلداننا إلى قلاع لمقاومة «الاشتراكية» حيناً و«الرأسمالية» حيناً آخر. وقد أثبت التاريخ أنهم على حق (!!..) فلقد انهزمت الاشتراكية بعد فشل النموذج السوفياتي، وهاهي الرأسمالية تدخل غرفة العناية المشددة..
* حتى بعد سقوط جدار برلين، لم تسقط جدراننا، وفقط منذ وقت قليل تعرض كتاب (سيرة رأس المال، لمؤلفه فرنسيس وين) لحملة ضارية لمنعه من المشاركة في معرض الكتاب في الرياض، كما تم سحب جميع نسخ كتاب «رأس المال» من المعرض، والمفارقة.. أن مقولات «رأس المال» لكارل ماركس هي من تُشرك الدول العربية، النفطية تحديداً، في الاقتصاد العالمي، فـ«رأس المال» هو مصدر الإلهام لنظرية «اقتصاد العرض» وأساسها أن الإنتاج وليس الطلب هو مفتاح الازدهار.. حتى ولو كان هذا الإنتاج (النفط) يدخل في باب القضاء والقدر..
يجب الاعتراف والمصادقة على اكتشاف جون كاسيدي، المراسل الاقتصادي لصحيفة الـ«نيويوركر» في أن صاحب رأس المال كتب مقاطع لافتة عن العولمة، وانعدام المساواة، والفساد السياسي، والاحتكار، والتقدم التقني، وانحلال الثقافة الرفيعة. وهي قضايا راح الاقتصاديون يواجهونها مجدداً، من دون أن يدركوا أنهم يسيرون في أعقاب كارل ماركس. ولعل هذا ما دفع بأحد المصرفيين البريطانيين العاملين في نيويورك إلى الاعتراف: «كلما طال بي الوقت في وول ستريت، كنت ازداد اقتناعاً بأن ماركس على حق».
* كتب الاقتصادي وانيسكي: علينا ألا نسارع إلى تهنئة أنفسنا على هزيمة كارل ماركس.والان تخيلوا المشهد الأكثر إثارة: كارل ماركس وفرنسيس فوكوياما وهما يتحدثان عن نهاية التاريخ!..
* الآخرون يعملون ويخطئون، ينجحون ويفشلون ويطلبون النجدة، ينظّرون ويتحاورون ويتراجعون ويعيدون تقييم تجاربهم. أما نحن، فما زلنا، لا اشتراكين ولا رأسماليين. نحن أمة وسطاً.. والمؤلم هو رائحة الشماتة التي تفوح من الكثيرين منا.
tariqawahid@yahoo.com
Leave a Reply