والذي حدث أن جدّاتنا توقفن عن الكلام وسرد الحكايات، وحلت محلهن الكتب والمناهج المدرسية والقنوات التلفزيونية المزودة بكل تلك الإيديولوجيا والصرامة والنبرة التعليمية القاسية.. التي تصر على خلق وتكوين أجيال جديدة تقدس العمل والنضال، وتتحلى بروح المسؤولية والمثابرة (!!..).
لم يكن بحوزة جداتنا شهادات في التاريخ أو الميثولوجيا أو سيكولوجيا الطفل. كنّ وحسب صاحبات حضن دافئ، وصوت رحيم، وفهم جميل للعالم، وبضع حكايات. وكان باستطاعتهن التحكم بمشاغباتنا وشقاواتنا وتربيتنا من دون تكلف وتشنج.. والأهم فتح عيوننا على عالم واسع، وأمثولات لطيفة!..
المدارس، الجامعات، والسياسات.. تريد أن تجعل منا بشراً آخرين: بشراً من لون واحد، وثقافة واحدة، وموقف سياسي واحد، لنردد شعاراً واحداً، في خندق واحد، تحت قيادة واحدة..ألخ!..
والذي حدث.. ذلك الفشل الذريع. أبنية عالية وضخمة، لكن البنّاءين والمصممين والقادة، نسوا في غمرة انشغالهم بالبناء العمراني والتنموي، نسوا أن يصمموا الأدراج والسلالم، ونوافذ الطوارئ.
وحدث أيضاً، أن أجهزتنا ومؤسساتنا الحديثة، الرسمية والاجتماعية، أردات أن تسرق منا جداتنا، وتتكفل بإعمار وهندسة وجداننا وعواطفنا منذ سنوات الطفولة الأولى، فنشأنا هكذا أبناء بررة، بوجهات نظر أحادية صارمة. تلاميذ انحفرت في قلوبنا مفاهيم وأفكار وحكايات وأناشيد تمجد الصوت الواحد، والموقف الواحد. ولم يتغير شيء، منذ كنا أطفالاً نرضع حليب المدارس.. وحتى الآن.أجهزة قولبت الثقافة، واختصرت العالم، ونمذجت الأشخاص والكائنات. فالقائد ملهم، والجندي شجاع، والممرضة ملاك، والأستاذ رسول، والنملة عاملة جادة، والصرصار كسول ومتسكع، والسلحفاة مواظبة، والأرنب مغرور..ألخ.
تعرفون قصة النملة والصرصار، بلا شك. تعرفونها من الكتب أو البرامج التلفزيونية. لكن الكتب إياها قدمت لنا نصف الحكاية، وابتلعت النصف الآخر لأسباب تتعلق بطريقة تفكيرنا الحاد والمتشنج. والنصف الآخر من الحكاية يقول:
أنه لما كان الشتاء، بدأ الصرصار يشعر بالجوع، ولكنه لم يتوقف عن الغناء. وشعر قليلاً بالألم بعد أن رفضت النملة إقراضه بعض حبوب القمح، لكنه لم يتوقف عن الغناء، وظل يردد: ليس بالقمح وحده يحيا الإنسان..
وبعد أيام، أردات النملة أن تزوج ابنها المدلل، وأن تقيم له حفلة زفاف كبيرة تسمع بها جميع النمال. وفي الأفراح والأعراس لا بد من الموسيقى، فذهبت النملة إلى جارها الصرصار تسأله العون والمشاركة، وقلبها يعتصر من الألم لإنها لا تستطيع الغناء والتقصيد. لكنها مع ذلك.. دعت الصرصار إلى حفل الزفاف، فلبّى الصرصار الدعوة، وملأ قاعة العرس بالموسيقى والفرح، ورقص الجميع وغنوا سبعة أيام متواصلة. في النهاية حصل الصرصار المغني على كمية من القمح تكفيه مؤونة الشتاء.
لا بد أن «جدة» ما في العالم هي التي اخترعت نهاية القصة على هذا النحو، فالكتب المدرسية، غالباً، قاصرة ومملة وضيقة الرؤية. «جدة» تعرف بحس إنساني وفطرة غير ملوثة أنه لا يمكن تقسيم العالم بخطوط قاسية وصارمة. فالعالم يتسع للجميع، بمن فيهم الصرصار.. طالما أنه رمز الموسيقى والفرح، في الحكاية على الأقل، وليس رمز الكسل والخمول كما قدمته كتبنا المدرسية.
أيضاً تعرفون قصة الأرنب والسلحفاة. لقد انتصرت السلحفاة على الأرنب في ذلك السباق الشهير الذي أقامته مناهجنا المدرسية، لكن هناك، ولا بد.. تتمة للحكاية.
ينبغي الآن «جدة» لتكتمل الحكايات إلى آخرها، «جدة» تروي قصص المهزومين والهامشيين والعاطلين عن العمل..
Leave a Reply