بين زلّة لسان بايدن.. وفساتين سارة بالين
باتت الأسئلة تتجه أكثر فأكثر نحو ما بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية بعد أقل من أسبوعين، وتتمحور حول إدارة الرئيس العتيد باراك أوباما الذي تضعه الاستطلاعات المتتالية على عتبة البيت الأبيض، إلا إذا حدثت «معجزة» انتخابية تعيد الروح الى حملة المرشح الجمهوري جون ماكين.
هذه الأسئلة تتركز حول قدرة الرئيس المحتمل الشاب (47 سنة) على تولي القيادة ونقل أميركا من حالة التردّي الاقتصادي والمالي التي تقرب من الإفلاس، وسوء السمعة الدولية إلى حالة جديدة من استعادة الهيبة العالمية التي اهتزت بفعل حربين كبيرتين تخوضهما في العراق وأفغانستان ولا يلوح في أفقهما أي طيف لـ«نصر» حاسم، فضلاً عن تداعيات الزلزال الذي ضرب أسس النظام المالي الأميركي وكشف وهن القوة العظمى الوحيدة وعملتها الكونية أمام العالم، مهدداً بتراجع سريع لدور هذه القوة ونفوذها مقابل قوى إقتصادية عملاقة صاعدة مثل الصين التي تمد منذ عدة سنوات «يد المساعدة» للأمبراطورية الأميركية عبر سياسة إقراض سخيّة تبلغ مئات مليارات الدولارات، ويحكى أن خطة الإنقاذ المالية الأخيرة البالغة 700 مليار دولار تعتمد على قرض صيني بالدرجة الأولى!..
المرشح أوباما لا يمتاك عصا سحرية لحل مشاكل أميركا الكثيرة والمعقّدة لكنه يمتلك رؤى إقتصادية وإجتماعية يصعب على خصمه الجمهوري تسفيهها، خصوصاً أن الإدارة الجمهورية خلال السنوات الثماني الماضية جعلت من شبه المستحيل إقناع الجمهور الأميركي بجدوى إعادة انتخاب جمهوري لأربع سنوات جديدة، إلا أن تركيز الحملة الجمهورية على المقدرات القيادية للمرشح الديمقراطي الشاب في وجه امتحان من نوع اعتداءات الحادي عشر من أيلول أو تحدي القدرة الأميركية في أحد ميادين نفوذها العالمية، مثلما حصل مع المواجهة الروسية-الجورجية قبل أشهر قليلة، أو ما يواجهه الوجود العسكري في العراق وأفغانستان من تحديات يومية.. هذا التركيز هو الملاذ الأخير لحزب فقد أو يكاد هويته وسمعته كحزب «ابراهام لينكولن»، و«تيدي روزفلت»، و«دوايت آيزنهاور»، و«رونالد ريغان»، وهم الرؤوساء الجمهوريون المميزون بانجازات طبعت التاريخ الأميركي بطابعها مثل تحرير العبيد على يد لينكولن والمعارك الكبيرة التي خاضها روزفلت وآيزنهاور وساهمت في إرساء معالم القوة الأميركية لعقود توّجها الجمهوري ريغان بهزيمة «أمبراطورية الشرّ» السوفياتية عام 1989.
وتتبدى مشكلة الجمهوريين مع تشكيكهم بالمؤهلات القيادية للمرشح أوباما في أنهم يغفلون حقبات بارزة من التاريخ الأميركي حقق فيها رؤوساء ديموقراطيون وجمهوريون إنجازات راسخة، وهذه حقيقة يبني عليها أوباما رؤيته للتعامل مع الأزمات الدولية، ومفادها أن الرؤوساء الأقوياء لا يعبرون، بالضرورة، عن قوتهم بشن الحروب الوقائية والاستباقية مثلما فعل الرئيس جورج بوش الإبن، بل هم يتحدثون مع خصومهم، مثلما فعل الرئيس الديموقراطي جون. إف كينيدي مع الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف خلال أزمة الصواريخ الكوبية في العام 1962 متجاوزاً أخطر امتحان لرئيس شاب (كان بعمر أوباما الحالي)، ومثلما فعل الرئيس الجمهوري ريتشارد نيكسون عندما اقتحم بالدبلوماسية الستار الحديدي لصين ماوتسي تونغ وأسس لعلاقات إقتصادية ممتازة بين العملاق الأميركي والتنين الصيني لا تزال آثارها بادية حتى اليوم وتستفيد منها القوتان على قدم المساواة.
وعلى الرغم من محاولة المرشح الجمهوري ماكين النأي بنفسه عن الرئيس الجمهوري المغادر وإرثه الثقيل على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والمالية، إلا أنه يظل أسير عقيدة استخدام القوة المفرطة وسياسة العصا دون الجزرة، مع «دول مارقة» بالمعيار الأميركي مثل إيران وفنزويلا وكوبا التي لا تشكل أخطارها نسبة ضئيلة من الأخطار التي كان يمثلها الاتحاد السوفياتي على الأمن والنفوذ الأميركيين في العالم.
وقد يكون المرشح الجمهوري معذوراً في الاتكاء على منطق القوة المطلقة (العسكرية) إذا ما عرفنا أن جعبته الاقتصادية خاوية إلا من أوهام ووعود لم تعد تنطلي على الناخب الأميركي، يؤكد هذه الحقيقة انتقال شريحة لا بأس بها من النواة الجمهورية الانتخابية الصلبة من ضفة إلى إخرى في ولايات عُرفت بولائها الأعمى للحزب الجمهوري على مدى عقود (فيرجينيا ونورث كارولاينا مثلاً).
لقد أظهرت الحملة الرئاسية الجمهورية ضعفاً وتفككا غير مسبوقين في تاريخ الحزب الذي وفّق أحد قياداته التاريخية رونالد ريغان بين تيارين متعارضين في داخله، أحدهما ذو توجه إقتصادي محافظ ينبني على النفور من دور الدولة وطبيعتها البيوقراطرية وإيلاء ثقة مطلقة لإقتصاد السوق، وبين توجه اجتماعي محافظ كان يدعو الدولة إلى الحد من استفحال ظواهر مستحدثة نجح «تقدّميو» الحزب الديموقراطي في تحقيق الإقرار بمشروعيتها مثل حق الإجهاض ومنع التمييز ضد المثليين، حيث نجح ريغان في التوفيق، النظري على الأقل، بين هذين التوجهين من خلال التوازن الذي استحدثه بين الحد من سلطة الحكومة الفدرالية ومنح الولايات حقوق إقرار التشريعات الملائمة لأوضاعها.
وشكلت مرحلة «الريغانية» التحدي الأقسى للتوجه التقدمي الذي هيمن على الحزب الديموقراطي فأبقت زمام المبادرة في يد الحزب الجمهوري والتيارات المحافظة، ولم يفلت من أيدي الجمهوريين إلا مع الرئيس بيل كلينتون الذي أفلح في إحداث «وسطية» داخل الحزب الديموقراطي مكنته من الحكم لثماني سنوات، لكن سرعان ما استطاع الحزب الجمهوري أن يستفيق من سباته على صدى صراخ «المحافظين الجدد» الذين منحتهم «الكلينتونية» إجازة طويلة لكنها لم تستطع إنهاء «ظاهرتهم» بالكامل، وكان أن صعدوا مجدداً مع جورج بوش الإبن الذي أسلم إليهم مقاليد الأمور، مع تزامن بداية ولايته الرئاسية الأولى مع أضخم حدث إرهابي تشهده الولايات المتحدة في 11 أيلول 2001.
ومع تصاعد الأخطار الأمنية سقطت أولويات الالتزام بالمبادئ الاقتصادية المحافظة ووقع الرئيس بوش في فخ رفع مستوى الإنفاق والعجز، على وقع حروب أميركا في الخارج، فوصل إلى مستويات غير مسبوقة.
وقد حاول الجمهوريون استعادة أجواء «الحرب الثقافية» ارتكازاً على عقيدة اجتماعية محافظة، غير أن هذه المهمة كان من دونها خرط القتاد، لأن مرحلة ما قبل اعتداءات الحادي عشر من أيلول التي سادها صراع ليبرالي-محافظ، لم تعد قابلة للاستحضار، إذ وقعت الإدارة الجمهورية بين شرّي الهمين الأمني والاقتصادي: الأول تتغذى عليه في إنفاقها غير المسؤول والثاني يسيء إليها ويحملها تبعات الأوضاع الاقتصادية الرديئة.
هكذا وجد المرشح الجمهوري نفسه وسط حزب تتنازعه تيارات متناقضة في محافظتها بين القديم التقليدي، والجديد المترنح، وأفلح في انتزاع ترشيحه وسط فشل رموز تلك التيارات في حشد كامل القاعدة الجمهورية، وبفضل قدرته على «كتم» رؤاه الاقتصادية والاجتماعية أو تغليفها بمواقف ملتبسة تقع في «منزلة بين المنزلتين» إلا أنه ظل قاصراً عن استنفار القاعدة الجمهورية الناخبة أو تخطيها نحو أرض الخصم، التي أنبتت مرشحاً رئاسياً يمتلك من الكاريزما والنجومية ما يجعل محاولة اقتحامها أو قضمها مهمة شبه مستحيلة.
والسؤال الماثل بعد موقعة الرابع من نوفمبر القادم لم يعد حول قبول الهزيمة الجمهورية التي ترتسم معالمها بوضوح، يوماً بعد يوم، وساعة بعد ساعة، بل حول إعادة الروح إلى حزب فقد «روحه» مع إدارة استهلكت معظم صورته «المشرقة» في أذهان جمهوره وبات بحاجة إلى إعادة تعريف جذرية لمنطلقاته وهي مهمة سوف تطول وليست بالسهلة على الإطلاق.
أما «زلة اللسان» التي ارتكبها نائب أوباما جوزيف بيدن حول مراهنته على امتحان رئيسه الشاب الموعود بأزمة طارئة في مستهل ولايته وقدرته على تجاوزها، فلن تخدم الخصم الجمهوري بأكثر مما «خدمته» مقولة ارتباط المرشح الديموقراطي بـ«الإرهاب اليساري الأميركي» ولسان حال أوباما يقول: من كان منكم بلا خطيئة فليرمِ شريكي بحجر، شرط ألا يكون الرامي من صنف شريكة ماكين سارة بالين التي صرفت الحملة الجمهورية على فساتينها وأحذيتها 150 ألف دولار فقط!.
الحملة الجمهورية «استفظعت» تركيز الانتباه على ثياب نائبة الرئيس، و«وعدت» بالتبرع بها، بعد انتهاء الحملة لمؤسسات خيرية. لكن ماذا لو حدثت «المعجزة» وفاز ماكين ومعه بالين؟ الأرجح أن التبرع بالثياب لن يعود يفي بحاجة الحزب إلى بذل الخير، وأن تتحول سارة بالين إلى سندريللا يجري تجريدها من كل «ثيابها» القديمة وإعادة «تأثيثها» من جديد للمهمة الرئاسية التي لا يتصور حتى حاكم كاليفورنيا الجمهوري آرنولد شوارتزينغر أنها قد تصبح رئيسة لأميركا إذا أصاب شريكها أي مكروه!.
Leave a Reply