الرئيس الراحل حافظ الأسد اعترف بلبنان ورفض دعوات لضمه أو لوحدة كونفدرالية
قوى 14 شباط تنسفها بدعم المعارضة السورية والادعاء ان السفارة ستكون مقراً للمخابرات
وأخيراً ارتاح أصحاب شعار «لبنان أولاً»، وحاملو الفكر الانعزالي، بإقامة علاقات دبلوماسية بين لبنان وسوريا، وكأنهم بذلك يحققون نصراً سياسياً، في وقت يتجه العالم إلى الوحدات الكبرى القومية أو القارية، وفتح الحدود، وتوسيع التجارة الحرة، وعولمة الكون، بحيث يتقدم الشأن الاقتصادي على ما عداه.
فالدول العربية التي جزأها الاستعمار لجأت إلى إعادة التعاون في ما بينها، مثل مجلس التعاون الخليجي، وإتحاداً كالمغرب العربي الكبير، أو تنسيقاً اقتصادياً في وادي النيل بين مصر والسودان. وحده المشرق العربي يتجه نحو مزيد من التفتيت والتقسيم والانعزال، نتيجة للمؤامرة التي بدأت في معاهدة سايكس-بيكو عام 1916 بين فرنسا وبريطانيا المستعمرتين، تمهيداً لوعد بلفور الذي وهب فلسطين دون وجه قانوني وطني وحقوقي دولي وإنساني لليهود، ومنذ ذلك التقسيم للمشرق العربي والوعد المشؤوم، تستمر أعمال التجزئة، وافتعال مشاكل الحدود، لتقوم «إسرائيل الكبرى»، أو لخلق «الشرق الأوسط الجديد» الذي بشّر به الرئيس الإسرائيلي الحالي شيمون بيريز، وتبناه كمشروع الرئيس الأميركي جورج بوش وفريقه من «المحافظين الجدد».
ففي زمن الاستعمار الفرنسي، أو ما كان يسمى ملطفاً الانتداب، كانت المصالح اللبنانية-السورية واحدة، في العملة (مصرف لبنان وسوريا)، والجمارك واحدة، والجيش (الكلية الحربية في حمص)، ولم تكن هناك حدود بين البلدين، وكان الفكر القومي الوحدوي متقدماً على كل دعوة لانسلاخ الدولتين تحت عنوان الاستقلال، الذي أعطته فرنسا لكل منهما وبقيت مسألة ترسيم الحدود قائمة، حيث تتداخل الأراضي، وتقوم بلدات وقرى في الجانبين. فالقرى اللبنانية داخل الأرض السورية تفوق العشرين حتى الآن، ولم ينظر إلى هذا الموضوع من زاوية العلاقات الاقتصادية والاجتماعية التي تجمع بين الشعبين، وتحولهما الطبيعة والجغرافية والتواصل العائلي والاجتماعي والتكامل الاقتصادي شعباً واحداً.
فمنذ استقلال لبنان وسوريا، وبعدما أنجز اللبنانيون تسويتهم التاريخية في صيغة عام 1943، بأن لا يكون لبنان مقراً للغرب وممرا للشرق، لم ينته الصراع حول هوية لبنان ولا نهائية كيانه، وقد تسبب ذلك بأزمات وحروب أهلية، ولعبة محاور عربية وإقليمية ودولية، إلى أن حصلت التسوية في الطائف وصدر اتفاق عن النواب اللبنانيين الذين اجتمعوا في هذه المدينة السعودية، أقر بأن لبنان وطن نهائي لأبنائه، كما أكد على إقامة علاقات مميزة مع سوريا، لأنها هي الدولة العربية التي لها حدود برية مع لبنان بنحو 250 كلم.
وقد اعترفت سوريا بنهائية الكيان، بالرغم من أنه يتناقض مع عقيدة حزب البعث العربي الاشتراكي الذي لا يعترف بحدود التجزئة التي أقامها الاستعمار، ومثله أحزاب قومية عربية وسورية وقوى ناصرية وشخصيات عروبية، لكن الظروف السياسية الداخلية، والحرب الأهلية المفروضة على اللبنانيين، فرضت التعاطي مع الواقع السياسي، وأكد الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد على نهائية الكيان اللبناني واعترافه به، وكانت توجه إليه تهمة أنه يسعى إلى ضم لبنان إلى سوريا لأنه يريد تحقيق «سوريا الكبرى»، كما قال الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان في الثمانينيات، ومثله أعلن قادة العدو الإسرائيلي وغيرهم من زعماء في العالم، وكان الرد السوري عليهم، أن سوريا لا تريد ذلك رغم إيمانها العقائدي بأن لبنان جزء من أمة عربية كما غيره من الدول العربية، ورفض الرئيس الأسد دعوات وجهت إليه لإقامة وحدة بين لبنان وسوريا، وتحديداً من قيادات مسيحية من أبرزها كميل شمعون وبيار الجميل، طالبوه في عام 1976 بإقامة وحدة كونفدرالية بين البلدين وضم الأردن إليها، لكن الأسد امتنع عن تلبية ما يطلبونه وكان يؤكد احترامه لسيادة لبنان واستقلاله. وكان دخول القوات السورية إليه، لوقف الحرب الأهلية فيه، ومنع تقسيمه كي لا يتحول إلى «إسرائيل ثانية»، بعدما انكشف المخطط الاسرائلي بإقامة دويلات طائفية ومذهبية، وهذا ما حدث إلى حد كبير أثناء الغزو الصهيوني للبنان وبعده، وقد شجعت إسرائيل بشير الجميل على إقامة دويلته من «جسر كفرشيما إلى المدفون».
فسوريا كانت تاريخياً تطالب بإقامة علاقات دبلوماسية مع لبنان منذ عام 1943، تاريخ استقلال لبنان، وبعد إنشاء الجامعة العربية عام 1946، وفي عهد الرئيس السوري جميل مردم بك حيث اعترف باستقلاله، ومن ثم بعد فك الارتباط الاقتصادي بين البلدين في عام 1950، وإقامة نقاط حدودية بينهما. وكان الرفض يأتي من لبنان ومن مسؤولين فيه، لاعتبارات لها علاقة بأن لا حاجة لهذه العلاقات ما دام هناك اعتراف بلبنان الكيان كدولة، وأن تنظيم العلاقات تمر بمكاتب اتصال مشتركة، وقد اعتمدت هذه الصيغة بينهما لرعاية مصالح اللبنانيين والسوريين، وتطورت إلى المجلس الأعلى اللبناني-السوري بعد اتفاق الطائف الذي أرسى العلاقات على أسس مؤسساتية بدلاً من العلاقات الشخصية التي كانت طاغية ومؤثرة في كثير من الأحيان، وهي التي تسببت بحصول ارتكابات وأخطاء أساءت إلى الدولتين، ودمرت عملاً بدأ يتجه نحو عقد اتفاقيات تعنى بشؤون التبادل التجاري وتنقل الأفراد والسيارات والاهتمام بالتعاون العسكري والأمني بين الجيشين والأجهزة الأمنية، وتكثيف النشاطات الثقافية والتربوية وتعميق التواصل بين الشعبين، وتم تحقيق إنجازات في هذا المجال، إلا أن الشق الأمني تقدم على الشق الاقتصادي في العلاقات، فلم يكن ينظر إليها من منظار ما كان يتبادله البلدان من صادرات على مختلف الصعد، بل ما كان يجري في عنجر مركز المخابرات السورية، هو الذي استحوذ على الاهتمام سلباً أو إيجاباً.
وقبل خروج القوات السورية وأجهزتها الأمنية من لبنان، اتفق البلدان عبر المجلس الأعلى اللبناني-السوري، وفي اجتماع عقد في دمشق بتاريخ 5 آذار 2005، على إقامة علاقات دبلوماسية وعلى انسحاب القوات السورية، وقد نُفّذ الشق المتعلق بإنهاء الوجود العسكري السوري في 26 نيسان من العام نفسه، لكن الشق الدبلوماسي كان منتظراً أن تنفذه الحكومة التي تنبثق بعد الانتخابات النيابية، لكن الخلافات السياسية التي عصفت بها أخّرتها، وانتظرت دمشق تأليف حكومة وحدة وطنية بعد انتخاب رئيس للجمهورية، للإعلان عن التبادل الدبلوماسي، وقد وفت بوعدها في أول قمة عقدت بين الرئيسين السوري بشار الأسد واللبناني ميشال سليمان، حيث أعلن عن إقامة علاقات دبلوماسية، ووُضعت آلية لذلك، وهذا الأمر حصل نتيجة قرار سوري، وليس كما ذكر بالضغط الدولي والإقليمي والعربي، ولا تنفيذاً لشعارات قوى 41 شباط التي اعتبرت أنها حققت نصراً سياسياً بتحقيق أحد مطالبها، ولكنها عادت وانقلبت عليه، عندما تم التوقيع بين وزيري خارجية البلدين على إقامة السفارات وتبادل السفراء، وبدأت تتخوف، لا سيما وزراء الحزب التقدمي الاشتراكي ونوابه وحلفاءه، من أن تتحول السفارة السورية إلى مركز للمخابرات أو إلى «مربع أمني»، وأقلقهم هذا الأمر، وباتوا يلعنون الساعة التي فكروا فيها في إقامة العلاقات الدبلوماسية، لأن في ظنهم أن عنجر و«البوريفاج» سيتكرران كمقرين للمخابرات، وقد ظهرت أمامهم صور وجود ضباط أمثال اللواء رستم غزالي أو العميد جامع جامع أو العميد محمد خلوف وغيرهم، وهؤلاء الضباط كانوا في لبنان لأسباب أمنية تتعلق بالحرب الأهلية، وقد ساعدوا على تثبيت الأمن وتحقيق السلم الأهلي، وإن من يخشى عودتهم عبر السفارة، وهذا أمر مستبعد، فلأنه قلق من أنه سينكشف من جديد من خلال العمل مع أجهزة الاستخبارات السورية، كما كان دوره في السابق، وقد نقلوا عملهم إلى سفارات أخرى وتحديداً السفارة الأميركية، حيث اشتهر سياسيون لبنانيون وقادة أحزاب في العمل معها وكتابة التقارير لها ولسفارات أخرى، وهو الدور الذي مارسوه مع عنجر و«البوريفاج».
فقوى 41 شباط لم تحقق فوزاً في إقامة العلاقات الدبلوماسية بين لبنان وسوريا، وهي لن تستفيد سياسياً من ذلك لا على المستوى الداخلي ولا على الصعيد الدولي، وقد أرخت بنتائج إيجابية على سوريا، وعاد التواصل معها دولياً وعربياً، وأثبتت أنها مفتاح الحل في الأزمة اللبنانية، كما في قضايا المنطقة، واستشعر فريق الأغلبية النيابية أنه بدأ يخسر حلفاءه الدوليين ولم يعد لحلفائه العرب أي تأثير مع تقدم دور سوريا العربي والإقليمي والدولي.
فسوريا التي اعترفت بلبنان الكيان، لا يؤثر عليها التبادل الدبلوماسي، لأن الاعتراف بالدول قانوناً لا يعني بالضرورة إقامة علاقات دبلوماسية، وهي التي كانت تقطع مع أي توتر بين الدول، أو اكتشاف مؤامرات في ما بينها. وإن تطور العلاقات الدبلوماسية بين لبنان وسوريا مرتبط بمدى التزام قوى 14 شباط بها وعدم تعكيرها، حيث لا يبدو أنها مستعدة للتخلي عن فكرة تغيير النظام في سوريا وإسقاطه، وهذا ما كشف عنه النائب وليد جنبلاط، وما زال هو وفريقه وحلفاؤه يرفعون لواء العداء لسوريا، ويدعمون المعارضة في سوريا ضد قيادتها، حيث كشف الرئيس الأسد أن هذه القوى تتعاون مع إرهابيين قاموا بعمليات اغتيال وتفجير داخل سوريا، وهذه مسألة خطيرة ستبقي العلاقات متوترة بين الدولتين، إذا لم يحسم رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان الأمر، وينبّه هؤلاء إلى أنهم في سلوكهم هذا، يدفعون بلبنان إلى حرب أهلية، وإلى قطيعة مع سوريا وإقفال الحدود معها، فيختنق اللبنانيون اقتصادياً، وقد قرر الرئيس سليمان أن يقوم هو شخصياً برعاية العلاقات اللبنانية ـ السورية، وهو أعطى توجيهاته إلى قيادة الجيش للتنسيق مع الجيش السوري، فذهب قائد الجيش العماد جان قهوجي وقبله مدير المخابرات العميد ادمون فاضل إلى سوريا، وتم الاتفاق على استمرار التعاون والتنسيق الذي أنتج اكتشاف شبكات إرهابية، تبين لإحداها التي يترأسها عبد الغني جوهر علاقة بالتفجير الذي أصاب أحد أحياء دمشق بالقرب من مقام السيدة زينب على طريق المطار، كما أن التعاون الأمني توصل إلى رفض أن يكون لبنان مكاناً للتآمر على سوريا، بعدما ازداد عدد المعارضين السوريين الذين أحتضنهم «تيار المستقبل» والحزب التقدمي الاشتراكي، وفتحت لهم المقرات، كمأمون الحمصي (هرب أخيراً)، ومراكز تدريب لجماعة رفعت الأسد وابنه رئبال في الشمال أو للإخوان المسلمين الذين زار مرشدهم صدر الدين البيانوني لبنان مرات عدة واستضافه جنبلاط في المختارة. وقد بدأ التعاون يثمر تضييق الخناق على المعارضين السوريين واعتقال أحدهم، لأن نشاطهم التخريبي تسرب إلى سوريا التي عززت إجراءاتها على الحدود مع لبنان للحد منهم، ونسقت الأمر مع الجيش اللبناني.
وإن إقامة علاقات دبلوماسية لن يلغي المجلس الأعلى اللبناني-السوري، حيث هناك اتجاه لأن يستمر في عمله لجهة متابعة الاتفاقيات بين الدولتين وإعادة تقويم لها وإدخال تعديلات عليها إذا رأى الطرفان ضرورة، وتكون مهمته محصورة في الشأن الاقتصادي، ولا يناقض العمل الدبلوماسي للسفارتين، وهذا الأمر تتبعه دول عديدة تقيم علاقات دبلوماسية في ما بينها، ولديها مجالس تعاون، مثل مجلس التعاون الخليجي عربياً، والاتحاد الأوروبي أوروبياً.
وهكذا يخطو لبنان وسوريا خطوات نحو علاقات دبلوماسية، وستتعزز بترسيم الحدود التي لن تكون عائقاً أمام الشعبين في أن يطوّرا علاقتهما باتجاه تمتين الدورة الاقتصادية بينهما، مما يؤكد على وحدة الحياة الجامعة التي لن يعيقها قيام سفارتين وتبادل سفراء.
Leave a Reply